استحلال يفوق الاستيطان!

اذا كان لا بد من وسيلة ايضاح مدرسية لهذا العالم المصاب بنوبات متعاقبة من العمى والصمم ، فهو يطة ، تلك القرية الهاجعة تحت خاصرة الخليل لكنها الآن اشبه بسيف جرد من غمده المطرز بعد أن صحت من النوم لتجد القطعان من المستوطنين وقد سيجوها واختطفوا اسمها ليقولوا بأنها وعد اليهم من الانبياء.. ان ما حدث في هذه القرية هو مجرد عينة لكنها تقدم عند الاختبار الدراما الفلسطينية كلها ، ما دام المشروع الاستيطاني والاستحواذي قد تأسس على ركيزتين هما السطو المسلح وتزوير التاريخ ولأن الدست كما يقال لا يركب الا على ثلاث ، فالركيزة الثالثة الآن تتشكل من صمت العالم ولامبالاته ، مما اسال المزيد من لعاب سمكة القرش الصهيونية،
ان تهويد وتزوير تواريخ أكثر من خمسمئة قرية عربية في فلسطين حوّل مثل هذه الجرائم الى اسلوب عمل واستراتيجية مستمرة ، رغم ان الجرة اليهودية لن تسلم الى الأبد اذا سلمت لأسباب يعلمها الضليعون في فقه التخلي والخذلان لعقود عدة،
المستوطنون محروسون بالجيش ، وهم يتمتعون بضوء أخضر من رئيس وزرائهم ووزير خارجيتهم وقائد أركانهم ، لأن هذا الثالوث لا يكف عن التحريض بمختلف الوسائل والاساليب ، عندما شاهدت ما يحدث في يطة تذكرت جدتي الأميّة والتي كانت تسمي الاحتلال استحلالا ، واعتذرت لها عشرين مرة عن التصويب اللغوي الأخرق الذي كنت أمارسه وأنا تلميذ ، فما يجري هو ما عبرت عنه جدتي ولا أحد سواها.. انه استحلال المحرّم ، وتحويل المسروق الى استحقاق لمجرد ان عمر الجريمة ستون عاما، رغم ان الاوطان لا تسقط من ذاكرة أهلها بالتقادم ما دام هناك صينيون قد تظاهروا قبل شهر من أجل استرداد أرض اخذتها اليابان منهم قبل ستة قرون وليس ستة عقود كما حدث في فلسطين،
ان الضابط بلوم ، الذي كتب عنه الراحل هشام شرابي في كتابه التاريخ الشفوي والذي كان يستحل الطيبّة.. هو مجرد اسم حركي لضباط وجنرالات وحاخامات ومستوطنين يفعلون الشيء ذاته..
انها لمفارقة ان تتوالى اعترافات دول العالم بفلسطين بحيث تجاوز عددها المائة في الوقت الذي تتوالى فيه هجمات القطعان على الخليل وشقيقاتها من المدن والقرى الفلسطينية ، وتفسير ذلك هو ببساطة ان هناك من لا يتعاملون مع التاريخ الا بوصفه خرافة فهم حولوا الجيتو من منعزل جغرافي مكاني الى جيتو فكري وثقافي ، يعيشون داخل شرنقتهم فقط والآخرون هم مجرد \"جوييم\"..
ان لعبة التناوب بين الجيش الاسرائيلي والمستوطنين أصبحت مكشوفة وفاحت منها رائحة كريهة ، فما لم ينجزه الجيش تتولاه هذه القطعان ، لكن تحت حراسته واستكمالا لمشروعه العسكري الذي لم يكن الا الاستيطان منذ اليوم الاول للاحتلال ما من عدو أوضح من هذا ، وما من معتدى عليه كالعرب أشد غموضا والتباسا مما نرى ونسمع.. فالقدس بحت أصوات شيوخها ورجال دينها من مسلمين ومسيحيين وأصبحت قاب عدوانين جديدين من الدمار التام ولا نظن ان لون الدم أصبح هو الآخر غامضا وملتبسا بعد ان سفح على مرأى من العالم وعبر الشاشات..
من الطنطورة الى يطة ، سردية حمراء تردد صداها كل شقيقة نعمان على تلك السفوح الوحيدة ، أما وسائل الايضاح وعلى النحو الخاص بتلاميذ الابتدائية فقد ظننا بأننا تجاوزناه.. وعلينا الآن ان نعتذر لأن العودة الى المربع الاول تحولت الى قدر، (الدستور)