شركات التأمين ونظرية «ربطة الخبز»

ثمة قصة طريفة يرويها اللبنانيون عن الكيفية التي حافظت فيها "ربطة الخبز" على سعرها ، برغم الموجات المتعاقبة من ارتفاعات الأسعار: ظل السعر ثابتاً لفترة طويلة من الوقت ، فيما عدد الأرغفة التي تحتويها الربطة ، كان يتناقص باستمرار.
هذه "الحيلة" يتبعها التجار والصناعيون لتفادي الإعلان عن ارتفاع أسعار منتوجاتهم ، فهو يعمدون إلى تقليص محتويات "العبوّة" أو وزن السلعة أو سوية "مُدخلاتها" ، المهم أن لا يقال بأن سعرها ارتفع ، المهم أن يكون رفع السعر هو آخر العلاج مثل "الكي بالنار".
وفي الدول المستوردة لمعظم "مدخلات" انتاجها ، كحال دولنا ، فإن انخفاض سعر الدولار او اليورو ، من شأنه أن يستتبع انخفاضا مماثلا في أسعار السلع "المنتجة" محلياً ، والعكس صحيح ، الارتفاع يفضي إلى ارتفاع. لكن العادة جرت في بلادنا أن ترتفع أسعار السلع عندما ترتفع أسعار المدخلات المستوردة ، ولكنها لا تنخفض بانخفاض أسعار الأخيرة ، في أحسن الأحوال ، يلجأ التاجر أو المُصنّع إلى "زيادة حجم العبوة" ، ويكتفي بلصق شريط عليها: أدفع نفس السعر واحصل على 20 بالمائة أكثر.
هي حيل عديدة ، هدفها المواطن ـ المستهلك الغلبان ، الذي لا حول له ولا قوة ، والذي بات هدفا لمئات الطامعين براتبه والعابثين بجيوبه ، لكأنه أصبح هدفا لكل باحث عن الربح والثراء السريعين.
شركات التأمين التي تباطأت في تحويل المستحقات المترتبة عليها للمستشفيات الخاصة ما دفع الأخيرة ، إلى وقف استقبال المرضى المؤمنين ، تعمل منذ فترة بنظرية "ربطة الخبز" اللبنانية.. أنت تدفع ما عليك من أقساط تأمينية ، وهذه الأقساط بخلاف "ربطة الخبز" في ارتفاع مستمر ، ولكن الخدمات المقدمة من شركات التأمين للمرضى في تراجع مستمر أيضاً.
فالدخول إلى المستشفى يضع المريض في "حيص" تحصيل موافقات تأمينية و"بيص" الحصول على غرفة.. وإجراء تحليلات في مختبر بات بحاجة إلى موافقة موظف التأمين على كل فحص تفصيلي تجريه ، هو الذي يقرر ما إن كنت بحاجة لفحص نسبة الكالسيوم أو الصوديوم في الدم ، وليس الطبيب المعالج ، هو الذي يقرر الشرائح التي يتعين أن يتوزع عليها "بول" المريض ، وبحسبة بسيطة يجد المريض نفسه مضطراً لدفع أزيد من نصف قيمة فاتورة المختبر ، وهو الذي وعد بأن لا يزيد إسهامه فيها عن 20 بالمائة في أكثر الحالات ، والسبب أن موظف التأمين ، لم يجد مبرراً لإجراء هذا التحليل أو ذاك الفحص ، وعن بعد ، وعبر الهاتف.
هم يقررون كم مرة يجب عليك أن تمرض ، وما هو نوع المرض الذي يتعين أن تصاب به ، وهل تحتاح إلى صور أشعة أو تحليل مختبر.. هم الذين يقررون أين تذهب ومتى وكيف ، هم الذي لا تنقصهم الوسيلة للتحايل على العقود المبرمة بينك وبينهم.. يكفي أن يأتيك هاتفك الموظف من بعيد ، هذا يصرف وهذا لا يصرف ، حتى تكتشف أنك ضحية "تآكل ربطة الخبز" ، ودنو قيمتها إلى الربع أو الثلث في أحسن الأحوال.
وإن أنت تخطيت حاجز شركات التأمين ، فانك بلا شك ستجد صعوبة في تخطي حاجز الطبيب المعالج أو المستشفى المُستقبًل ، الذي ما أن يرى "نموذج" شركة التأمين ، حتى تهبط عليه كل شياطين الأرض ، ويبدأ "الملاطشة" يميناً ويساراً ، لا غرف درجة أولى ، فهي محجوزة لمن يدفع كاش ، ولا مواعيد قريبة لمرضى التأمين ، فالأولوية لمن يدفع كاش ، والمصابون بأمراض مزمنة كالسكري والضغط والكوليسترول ، هذا الثلاثي غير المقدس ، لا بواكي لهم ، إذ هيهات أن يحظى بما يحتاجه من أدوية يتعين التهامها على مدار العام والسنوات ، يوميا ولعدة مرات ومن دون انقطاع.
"تخليق" - من أخلاق ، وليس من الخلق - القطاع الطبي وقطاع التأمين ، بات أمراً مطلوبا وملحاً ، وإن كان "قسم أبقراط" لم يعد مجديا ، فلن تنفع جميع مدونات السلوك ومواثيق الشرف مع البعض ، يجب على المجتمع المدني من نقابات وجميعات حماية المستهلك أن تقوم بدور أفعل في مواجهة "تسليع" هذه القطاعات وتركها نهباً للجشع والعبث ، يجب على الحكومة أن تكون العين والرقيب ، فلا يكفي أن نلاحق الأطباء لتحصيل الضرائب على مداخليهم العالية فحسب ، هذا مهم ، بيد أن الأهم منه ، هو أن نطاردهم إن هم تعاملوا مع المرضى كزبائن.
أما شركات التأمين التي حظيت بالرعاية في قانون ضريبة الدخل المؤقت ، فلا أقل من إلزامها بتقديم خدمات أفضل للمواطنين ، ومن باب اولى الوفاء بالعقود المبرمة معهم ، والكف عن العمل بنظرية "ربطة الخبز" التي وإن حافظت على سعرها ، إلا أنها "فقدت بركتها" تماماً كما فقدت خدمات شركات التأمين بركتها.(الدستور)