أين يسهرُ رأسي الليلة؟!

اليوم فرصةٌ مواتيةٌ لاكتشاف أنَّ للزمن شكلا آدميا؛ سيمرُّ الوقتُ سريعا هذا النهار مثل سقوط آخر ذرَّات السكَّر من الكيس الفارغة، والدقائقُ تهرولُ للأمام بأقدام طفلة تجهدُ للحاق بأثر أمها في السوق، وعند الساعة الثانية عشرة تماما ينبتُ الرأسُ ونصعدُ، بصخب الأعراس الشعبية، أعلى الليلة الأخيرة من السنة، ونتهيَّأ للنزول السريع!.
ما يهمُّني أنني اكتشفتُ رأسي هذا اليوم؛ فمثل السنوات لي رأس آخر الحساب. كنتُ قد نسيته، فآخر مرَّة مشيتُ بهامته مرفوعةً في مظاهرة مبشِّرة بالنصر العراقي في معركة ميناء أم قصر؛ ارتفعَ رأسي كثيرا يومها، لكنَّ سقوطه كان مدويا لما تداعت بغداد..
وقبل 2003 لم يكن رأسي مرفوعا؛ فقد سقط حتى السقوط، وكلُّ القلاع هوت تباعا كأحجار الدومينو إلى أنْ سقطت آخر القلاع وصار \"الهواءُ حامض\"!.
ولم يكن مبررا أبدا أنْ أرفع رأسي بعد ذلك، فقد طحنته نوباتُ الضرائب المتلاحقة، وتحرَّرَ من عقله مع تحرير أسعار المحروقات، وبات عاطلا عن التفكير فلم تخصِّص له أي دولة وظيفة بعد \"الخصخصة\"؛ فراغا أصبح، ومجرَّدَ إناء يعدُّ الوقت كساعة أفرغت من رملها، وصار وقتها ملحا رتيبا!.
لن أبالغَ في النكد؛ فالليلة سأصْعَدُ رأس السنة، وأرفعُ رأسي الذي يُعادلُ بهجتي باكتشافه العثور على عشرين دينارا منسية في لباس شتوي رث. لا أريدُ إرهاقه بالتفكير؛ كلُّ ما عليه أنْ يختارَ مكانا مناسبا.. فأمرٌ بسيط للغاية أنْ أجدَ جوابا عن سؤال سلس كهذا: أين يسهرُ رأسي الليلة؟!
يتطلبُ الأمرُ أن أفاضل بين العروض: هل أسافرُ برأسي إلى عاصمة عربية لأنقذَ متعهدا عربيا شقيقا من الخسارة، لأنَّ أجر \"عمرو دياب\" يفوقُ 300 ألف دولار عن الليلة برأسها!
أو أنزل به إلى البحر الميِّت؛ سيكونُ لي دافعٌ مزدوج عندها: أسهرُ ليلة من العمر وأشجِّعُ السياحة الداخلية بفاتورة مفتوحة على البياض!
لكنني قد أفضِّلُ السهرَ في مكان بـ \"المتناول\" في ملهى ليلي بعمان الغربية؛ فكلُّ ما أحتاجه راتبي الذي يوزعه البنك \"بمعرفته\" على \"ديَّانتي\" من الأفراد والمؤسسات الربحية!.
من الأجدى أن أفكرَ بواقعية شديدة، وأمضي برأسي الخفيف إلى بارات البلد التي كنتُ إلى وقت قريب أظنها رخيصة، كما توصفُ في \"الروايات الصفراء\"، ولما أعرفُ أنَّ الضرائبَ كانت حريصة على \"صحة\" المواطن، وارتفعت بشكل مبالغ على المشروبات الروحية، سأدركُ أنَّ رأسي بات مُدجَّناً ولا يحتاجُ الكحول، فهي عدا عن كونها منكرا، ستذكره بأحزان يودُّ نسيانها، وإنْ كان من الضروريِّ الاحتفال (ومجاراة أجواء العالم المتمدِّن) فليكن بزجاجة ماء شعير \"حلال\" من دون كحول!.
ولن تكفي زجاجة واحدة بالطبع، وهذا يجعلُ الخيارات محدودة جدا، بل يرجِّحُ من خيار الاصطفاف بجانب الطريق بكوب قهوة سائلة والاستماع إلى \"عمرو دياب\" بالمجان على محطات الـ FM!.
لأكفّ عن التفكير حتى لا أندم على وجود رأسي؛ فأيُّ حفلة الليلة ستكونُ سمرا ماجنا من أجل 15 أيار، و5 حزيران، و 9 نيسان.. وبنخب كلِّ درجات السقوط!.
كلُّ ما يريده رأسي الليلة أنْ ينامَ على ركبيتكِ، عند الثانية عشرة \"تماما\"، مثل يتيم الآباء..؛ فهاربٌ أنا من العام الخائب إلى عينيكِ، ومن الصحراء إلى يديكِ. خرجتُ برأسي من كلِّ المظاهرات الخاسرة فاحميه حتى لا يسقط ثانية، وبرفقٍ مسِّدي شعري وأدخليني زمنكِ الطويل حتى الثانية عشرة \"دائما\"!.(الغد)