وللحرية الخضراء باب

احتجاج مدينة سيدي بوزيد، بدا منذ انعتاق جِنيّهِ عفوياً، لكن ومع استمرار فضائله، أخذ منحى آخر، ليس بإرادته، بل بالمخزون الكبير من الأيام السوداء التي عاشها التونسيون تحت 23 سنة من القمع والهراوات.
وفي الطريق إلى وزارة الداخلية التونسية بعد أربعة أسابيع من المواظبة على الوقوف تحت درجة حرارة منخفضة ليل نهار، كان العالم كله يغلق أذنيه عن المجزرة التي راح ضحيتها نحو 90 شهيدا، وظهر أن الوقت قد حان في تلك الأرض التي طالما غنينا لها "يا تونس الخضراء" وأن سنوات القمع يجب أن تولي.
كانت أيام القتامة التي جثمت على صدور التونسيين تتوارى. صحيح أن ثمة انفلاتا جاب شوارعها بعيد زوال القتامة وفرار الديكتاتور، إلا أن الفرح بالنصر ما يزال غامضا. ففي الوقت الذي عاش فيه التونسيون، حين خرج المخلوع بن علي من تاريخ عسكرتاري إلى الحكم، هطلت عليهم وعوده التي تحتاج إلى ملايين المردة لتتحقق بعد ذلك.
ثورة سيدي بوزيد أو البوعزيزي كما يحلو للبعض تسميتها، هي ثورة ملايين المردة على الديكتاتور، الذين سيحققون اليوم وليس غدا، إحكام القبضة على منجزهم العظيم، منجز الجمعة الكريمة. وهي التي لا يمكن أن تكون مجرد هتاف يذهب إلى منزله عند المساء ليشرب شايه الساخن، ويتناول عشاءه الذي لم يعد يتوافر فيه إلا القليل القليل مما يقيت.
نجح التونسيون في أول صفحة في تاريخ الشعوب العربية المعاصرة، بتدشين إقصاء ديكتاتور من دون ثورة مسلحة أو انقلاب عسكري. وعمليا فإن ثوار تونس لم يتخرجوا في معاهد حركات التحرر العربي، ولم يخرجوا من خنادق اليسار أو الإسلاميين، إنهم الشعب التونسي، الشعب برمته، ولم تكن الأطياف السياسية قادرة على الظهور في المشهد الثائر.
بهذا الوضوح، فإن هذه الثورة برغم ما قد يبدو في أفق المداورة السياسية في تونس اليوم، وما قد تظهره غمامة الانفلاتات الأمنية هنا أو هناك، من تخوف على الالتفاف عليها من قبل طغمة الحزب الذي كان حاكما، ستحكمها صلابة الأسابيع الأربعة التي أسقطت الديكتاتور، ودفعته إلى الفرار.
ومهما كانت التفاصيل التي خرج فيها بن علي من تونس، فهي لن تكون بأدنى من تلك التي أسقطت شاه إيران، لكنها في تونسنا كانت ثورة خضراء تماما كتونس التي صبرت على الظلم، إلى أن أقصته، ولن تكون الثورة الخضراء ثورة خمينية، ولن يقبل التونسيون بارتداء الشادور، ولن يوغلوا هذه المرة في السكوت عن الحق، فقد جربوا الثورة، وعرفوا أن أي ديكتاتور جبان لا يصمد أكثر من أربعة أسابيع إذا ما أراد الشعب ذلك.(العد)