من الدولة الشركة إلى الدولة العصابة

اتصل رجل أعمال أردني بزميله المصري ليطمئن على أحواله، فأجابت زوجته، وقالت إنه تحت في نوبة حراسة للعمارة، بعد أن عادوا من ميدان التحرير. وأسهبت بالحديث عن جماليات الاعتصام. تلك العائلة تملك شقة على النيل يقدر سعرها بالملايين، وهي تملك شركة مضاربة، أي أنها الأكثر تضررا من ناحية اقتصادية من الثورة بعد انهيار البورصة، ومع ذلك صاروا جزءاً من الثورة من خلال مشاركتهم في اعتصام ميدان التحرير. نموذج آخر للمخرجة السينمائية هالة جلال التي فقدت شقيقتها التي أصيبت بارتفاع في الضغط ولم تستقبلها المستشفيات الرسمية التي التزمت بتعليمات الاقتصار على معالجة رجال الأمن فقط.
يعكس المثالان السابقان مدى اتساع الثورة المصرية لتشمل كل قطاعات المجتمع باستثناء أفراد العصابة. أحداث الأمس، وأكتب ولا أعرف نتائجها النهائية، عبرت عن رقي وشجاعة وتحضر المحتجين بقدر ما عرّت تماماً همجية وجبن وانحطاط عصابة الحاكمين. أغاروا على مبنى المتحف المصري، فهم بحميرهم وجمالهم وبغالهم ومطاويهم يجسدون حال النظام الذي لا مكان له في عصرنا.
لا مجال للإنكار والتذاكي، هويات ضباط الأمن كانت ترصدها الكاميرات على الهواء، وسلاح البلطجية مستخدم بكثافة في كل انتخابات، فكيف في المظاهرات. إن التاريخ لا يرحم قبل اختراع الكاميرا، فكيف إن كانت الكاميرات على الهواء؟ إن فتية مصر لا يخوضون صراع بقاء من أجل أنفسهم وبلدهم، بل صراع من أجل أمتهم ومن أجل الإنسانية. فبقاء نظام همجي على رأس ثمانين مليون آدمي، خطر على كوكبنا كله لا على المنطقة العربية.
قلت يوما إن العرب نقلوا العالم من الدولة الاشتراكية إلى الدولة الشركة. ثبت أن ذلك غير دقيق، فالشركة تسعى لتحقيق مكاسب خاصة، ورأس المال جبان يهرب عند اشتداد الخطر، ما تشهده مصر ليس شركة تسعى لمكاسب خاصة قابلة للتوريث بل عصابة شرسة مدمرة تسعى لتكرار فعلة نيرون في إحراق روما.
يقف مبارك اليوم معزولا، لا سند له غير نتنياهو الذي يحذر من تكرار نموذج إيران. وقد بدا واضحا أن الأميركيين تخلوا عن حليفهم التاريخي الذي يعيش أيامه الأخيرة، وقد اختار نهاية بائسة له، فأكثر من مائتي شهيد وآلاف الجرحى وكل هذا الخراب، وحتى نهب المتحف المصري وإحراقه يهون أمام استمراره في الرئاسة. ومن سوء حظه أن رحيله المديد متابع وموثق بالصوت والصورة على الهواء مباشرة، خلافا لسلفه من طغاة وثقت فظاعاتهم بكتب قد لا يطلع عليها أحد. ومن حسن حظ أحرار مصر أن بطولاتهم موثقة للدرجة نفسها، ولن تضيع تضحياتهم لا عند شعبهم ولا عند أمتهم ولا عند ربهم. فالكل إلى فناء بحسب ما ذكر أردوغان، وكل يرسم اللوحة الباقية من بعده. ولا أجمل من لوحة شباب مصر وهم مرابطون في ميدان الحرية والتحرير. وهي لوحة لم تكتمل بعد، وستكون الأجمل مع ضربة الفرشاة الأخيرة.(الغد)