لحظة الصحو الجميل

تم نشره الأحد 13 كانون الثّاني / يناير 2019 12:42 صباحاً
لحظة الصحو الجميل
د. رحيل محمد غرايبة

كان الفلاحون في الريف الأردني قبل عقود قليلة من الزمن يستبشرون بالغيث ويعربون عن فرحهم الغامر عندما ينهمر المطر وتسيل الأودية وتشقع المزاريب، ويتجمعون حول مواقد الحطب البدائية في الغرف الطينية الضيقة التي يطلق عليها (الخصاص)، وتكون أبوابها مشرعة، ولها نوافذ صغيرة مفتوحة على الدوام يخرج منها الدخان المتصاعد الممزوج برائحة الطبخ وصيحات الصغار.
عندما ينهمر المطر يتراكض الناس والأطفال يهرولون ليحموا أنفسهم من البلل، لأنه ليس من السهولة تبديلها أو تجفيفها، وتتراكض الحيوانات والطيور للبحث عن ملجأ أو بعض السقوف المتهالكة التي تقلل كمية البلل على الأقل، وتشكل هذه اللحظات قسطاً من الضيق لأنها تسبب الحشر الذي لم يتعود عليه الناس والحيوانات، فبيئة الريف تقوم على حياة الحرية والانطلاق الواسع والتلاقي المستمر مع عناصر الطبيعة والتواصل الدائم مع الكون الرحيب الذي لا يعرف الضيق ولا الانحشار.
لحظة الصحو وتوقف المطر تشكل لحظة انفراج بهيجة لكل الأطراف، فيخرج الأطفال يتقافزون فرحاً وسروراً، وهم يرقبون سيول الماء وخريرها وهي تتراكض نحو المنحدرات ويمتزج صراخهم وغناؤهم وهم يرددون أهزوجة الغيث المحببة :- (يا الله الغيث يا ربي ...... تسقي زرعنا الغربي) مع تغريدات الطيور وأسراب الدجاج الجائعة التي تبحث عما يسد جوعها في غمرة الانحباس السابقة، وينشأ من ذلك أنشودة كونية رائعة تحمل كل دلائل التوافق والتنسيق المدهش.
جلسات التجمع العائلي وقت الشتاء بين الصغار والكبار والأشقاء والأعمام و الجوار وبعض أهل الحي، تشكل دواوين علم و مجالس أدبية رائعة فما زلت أذكر طرق استثمار الوقت لهذا التجمع الاجباري الثمين، عبر إرسال مجموعة من الرسائل الثقافية والأدبية والاخلاقية والروحية؛ فيتم الاستماع أحياناً إلى قصص وروايات معبّرة مليئة بقيم الفروسية وخصال الوفاء والتسامح والمروءة، وبذل الجهد في انقاذ الآخرين وتقديم العون والغوث عند الاستحقاق، وأحياناً أخرى يتم إلقاء الأحاجي والحزازير الذكية، أو إلقاء القصائد البدوية والنبطية التي تدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ويتخلل ذلك فقرات من النكات والنوادر التي تستجلب الضحك وسرور القلب، مع تناول بعض المشروبات الساخنة (القهوة السادة والشاي الحلو)، وتكون الوجبة العائلية في مثل هذه الأجواء طنجرة عدس مرتبة، مع رؤوس صغيرة من البصل أو الفجل الذي يحوي قسطاً من الحرورة المعقولة.
ليس من باب الحنين إلى الماضي، وإنما من باب المقارنة مع المجالس العائلية لدينا في هذا الوقت، الذي يخلو من تمازج الكبار والصغار، ويخلو من تمازح الأشقاء والأعمام والأخوال والجيران، ويخلو من التفاعل الجمعي ومجالس الاستماع، وإنما نجد كل واحد صغيراً أو كبيراً يحمل هاتفه وعالمه الخاص، ويبتسم لوحده مع العالم الافتراضي، دون مراعاة لبناء منظومة القيم، أو صقل شخصيات الصغار، ودون استماع لقصص وروايات وأشعار، بل نحن لا نكاد نفرق بين نوبات الغيث ولحظات الصحو، ولا نكاد ندرك التغيرات الكبيرة في حالة الطقس إلّا من خلال الاستماع لنشرات الأخبار أو قراءة التوقعات والتنبؤات التي لم تعد مشوقة.
نحن يا جماعة الخير بحاجة إلى وقفات مراجعة، وبحاجة إلى جلسات دراسة جادة لأوضاعنا، وأوضاع عائلاتنا وأ|بنائنا، ومستقبل الأجيال القادمة، من أجل البحث عن إمكانية التكيف مع مقتضيات الواقع المعاصر دون الاخلال بحاجات النفس الداخلية، ودون غفلة عن القيم والبناء الروحي، ومساحات الجمال، ومقتضيات العيش المشترك بحده الأدنى .
جيل الكاتب ومن هو أكبر مني قليلاً ومن هو أصغر قليلاً يعيش المتناقضات الصادمة، والنقلات الضخمة الهائلة في الزمن، والانقلاب الكبير في عالم التواصل والتمازج المعرفي والاجتماعي، التي لم تشهدها الأجيال السابقة، ولا الأجيال اللاحقة، كتب علينا أن نعيش زمن المفارقة المذهلة.

الدستور - الاحد 13-1-2019



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات