غسق أم شفق؟؟

قال لي مثقف مصري ممن توحدني معهم فوستالجيا الستينيات انا مصري من فلسطين ، وان شئت فلسطيني من مصر ، فهو من جيل تربى على ثقافة قومية ورضع الحليب والحبر معا من زمن كان المئة مليون عربي فيه يبكون معا.. ويرقصون معا ، قبل ان تحولهم الخصخصة الاقليمية الى ما يسميه الكوميدي دريد لحام "حارة كل مين يده له".
بالامس شاهدت بين شعارات المتظاهرين في ميدان التحرير او ميدان الخامس والعشرين من يناير ما ذكرني بما مضى وكنت اظن انه انقضى قبل اربعين عاما.
مقاطع من قصائد لمحمود درويش منها حذار من جوعي ومن غضبي وهي القصيدة الشهيرة للشاعر الباقي التي حملت عنوان سجل انا عربي وكان محمود يرتضي قراءتها عندما يطلب منه الناس ذلك في دمشق وعمان والقاهرة وبيروت وتونس ويقول لهم.. لقد قلت سجل انا عربي للحاكم العسكري الاسرائيلي في حيفا..فكان لهذا التسجيل معناه.
وقرأت ايضا بين شعارات المتظاهرين لاسقاط النظام ثورة حتى النصر ، ولم تكن صور الزعيم الراحل جمال عبدالناصر خارج تلك المتظاهرات وهي الصورة التي اشتاق العرب لرؤيتها منذ عقود.
ما جرى في مصر لم ينبع في الخامس والعشرين من يناير هذا العام ، فهي لم تهدأ منذ عدة عقود ، واذكر ان عدد المتظاهرين في ميادينها وشوارعها عشية سقوط بغداد كان ينافس هذا العدد فمن يطالبون باسقاط النظام ، فالعزف ليس منفردا والشجون القومية اذا كانت ذات منابع اصيلة ليست مجرد شعاب او سواقي متباعدة.. انها التيار الراعف في نهر عظيم ، حاولوا افراغ ماءه في الجرار او الزجاجات دون جدوى،
هذا العام ليس عام الفيل الجديد او عام الرمادة او عام الاحتفال باستكمال الحفلة التنكرية للعولمة ، انه عام القيامة القومية بعدة امتيازات انسانية وثقافية وعلمية.
ففي مصر تقاسم عالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل الشعار مع بائع الفلافل ، مثلما اقتسم د. البرادعي المطلب مع سائق سيارته او مع من دهن له جدران بيته قبل اعوام..
ثمة لحظات تحذف المسافات بين المقامات ويعود فيها البشر الى طينتهم الاصلية ، ابناء لام واحدة ، وشركاء في الالم المزمن والامل السخي ، الذي تسقيه دموعهم واذا لم يرتو تسقيه دماؤهم.
العربي لمن ودعوه ساخرين وكسروا وراءه جرة فخار قبل عقد او عقدين من الزمان هو البعير الذي يتقن مهنتين معا.
مهنة التماوت التي سرعان ما يثبت بعنقه العالية بعدها ، ومهنة الصبر والاختزان واخيرا القدرة على تصفية الحساب..
ان ما سمعناه من مختلف العواصم وبمختلف اللهجات العربية هو تعبير آجل عن غضب عاجل ، وكأن هذه الامة التي ضمدت جراحها بدموعها وبما نزفت من دمائها ، اصبحت تبحث بشبق تاريخي مشحون بشهرة الانتفاض عما يعيد اليها صورتها ، فهي تشعر ان حائطها قد صار الاوطأ في هذا الزمن الاغبر ، وتشعر بانها عليها مديونيات باهظة تراكم عليها الربا التاريخي وتخاف على احفادها من ان يتحولوا الى رهائن او سبايا.
ثمة اشياء ثمينة واصيلة في الطبيعة والتاريخ معا لا يصل اليها الصدأ ، فها هو جوهر الأمة يتقطر تاريخها رحيقا كلما أوشكت على الغروب.
والعين الكليلة او العوراء هي التي لا تفرق بين الغسق والشفق،،(الدستور)