خريطة النزاعات والتحالفات في الشمال السوري
يتوزع الشمال السوري إلى أربع مناطق/ محاور، لكل واحدة منها ديناميتها الخاصة بها، سواء من حيث أهميتها لطرف أو أكثر من القوى الإقليمية والدولية، أو من حيث هوية وكثافة الانتشار العسكري والأمني في كل منها ... وملفات هذه المناطق، وإن كانت متشابهة ومتداخلة، إلا أنها تتميز باستقلال «نسبي» عن بعضها البعض.
الأولى؛ منطقة إدلب وأرياف حلب الغربية وحماة الشمالية، حيث تخضع المنطقة لسيطرة «هيئة تحرير الشام»، النصرة سابقا، ولديها حكومة «إنقاذ وطني» تدير شؤونها المحلية، وهي منطقة «خفض تصعيد» خاصة بموجب اتفاق سوتشي، ما زال تنفيذه معلقاً إلى حد كبير، وتثير هذه المناطق قلق موسكو وغضب دمشق، فيما تحظى أنقرة بروابط ملتبسة، ونفوذ غير مباشر فيها ... دمشق وموسكو، وكذلك طهران، تعتبر «تطهير هذه المنطقة من الإرهاب» مهمة تكتسب درجة عالية من الأولوية، فيما تركيا تماطل في تنفيذ التزامها بنزع سلاح الجماعات الإرهابية وطردها من هذه الرقعة كما التزم رئيسها رجب طيب أردوغان أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين... في قمة موسكو الأخيرة (قبل يومين) تحدث الزعيمان بلغة عمومية عن توافقهما حول هذه المنطقة، لكن من غير المنتظر أن يعملا سوياً لتطهير الإرهاب فيها، وستقع المهمة في نهاية المطاف على عاتق دمشق وموسكو وطهران والضاحية الجنوبية.
الثانية: منطقة منبج، وفيها إدارة مشتركة، تتولى السيطرة عليها وحدات الحماية وقوات سوريا الديمقراطية، وتنتشر فيها قوات أمريكية (التحالف الدولي)، وتحيطها القوات التركية من بعض جهاتها الشمالية والغربية، فيما أريافها الجنوبية تقع تحت سيطرة الجيش السوري وحلفائه ... هذه المنطقة، مصدر قلق لتركيا، التي توصلت مع الولايات المتحدة لـ»خريطة طريق» بشأنها، ما زالت حبراً على ورق، وتضغط أنقرة لتسليمها هذه المنطقة أو السماح باجتياحها بعد أن حشدت آلاف المقاتلين من المعارضة المحسوبة (8- 10ألاف مقاتل) عليها لهذا الغرض، لكن «الفيتو» الأمريكي ما زال بالمرصاد لأي تحرك تركي، برغم «دبلوماسية المكالمات الهاتفية» التي تكثفت مؤخراً بين البيت الأبيض و»القصر الأبيض.
الثالثة: وتشمل مناطق عمليات «درع الفرات» و»غصن الزيتون»، التي تخضع للجيش التركي وحلفائه من المليشيات السورية التابعة، وتعتبرها أنقرة «أنموذجاً» للاستقرار، وتدّعي أن 300 ألف لاجئ سوري عادوا إليها طوعاً، وتريد تعميم هذا «النموذج» على مناطق شرقي الفرات، بشريط أمني يمتد قبالة المناطقة الكردية، وبعمق 25-30 كم؛ الأمر الذي ترفضه دمشق جملة وتفصيلاً، وتعتبره احتلالاً لأراضيها، فيما موسكو سبق وأن منحت أنقرة ضوءا أخضر من جرابلس إلى عفرين مروراً بالباب، تبدو مترددة في منحها ضوءاً أخضر مماثلاً في شرق الفرات، وإن كانت لم تحسم أمرها وتتخذ قرارها النهائي بعد، كما اتضح في قمة بوتين – أردوغان يوم أمس الأول.
والمنطقة الرابعة، الممتدة شرقي الفرات، بانتظار الانسحاب الأمريكي منها، حيث يتصاعد الصراع والتنافس حول من يملأ «الفراغ الأمريكي»، واشنطن عرضت المنطقة الآمنة دون تفاصيل، ما يبقي القلق التركي متفاقماً، سيما في ظل العلاقات الوطيدة بين الولايات المتحدة وأكراد سوريا ... موسكو تفضل العودة إلى اتفاق اضنة 1998، الذي ينظم عمل الدولتين السورية والتركية المشترك في محاربة الإرهاب، مع نشر الجيش السوري على امتداد الحدود الدولية ... لكن موسكو التي تبدي تفهما متزايداً لمخاوف انقرة الأمنية لم تغلق الباب بعد، في وجه مشروع «المنطقة الآمنة»، وقد تمنحه ضوءها الأخضر، إن كان ثمن الامتناع عن ذلك، ارتماء أنقرة من جديد في الحضن الأمريكي.
دمشق تناور على هذه المحاور الأربعة ... تستعجل الحسم في إدلب الاستراتيجية، المهددة لأمن اللاذقية وحلب وحماة مباشرة ... وتستمهل الرد على «الاحتلال» التركي لعفرين وجرابلس والباب وما بينها من بلدات وقرى ... وتتقارب مع الأكراد وتقرّبهم منها عبر الوسيط الروسي لملء الفراغ الأمريكي وقطع الطريق على نوايا وخبايا الجانب التركي ... وتقترب من منبج بالطريقة ذاتها، ويبدو أنها تنتظر بفارغ الصبر، الفراغ الأمريكي في هذه المنطقة.
ليس ثمة ملف واحد من هذه الملفات الأربعة، قابل للحسم السريع والفوري، وليس هناك أية إرهاصات يمكن أن تدلل أو تكشف عن صورة الوضع النهائي لأي منها، فجميعها مفتوحة على احتمالات شتى.
الدستور - الجمعة 25-1-2019