خبراء مخضرمون!!!

لو سُئلت جدتي في قبرها عن معنى كلمة مخضرم لأجابت على الفور انه العفن الاخضر الذي يظهر على سطح النحاس ، وهي لا تعرف من الكيمياء أكثر من ان المطر هو البخار الذي يتصاعد من البحار ، لأنها شأن كل الناس شاهدت هذه التجربة تتكرر يومياً في ابريق الشاي وأواني الطبخ.
لكن المذيع الذي وصف خبيراً استراتيجياً بأنه مخضرم ، يقصد شيئاً آخر ، هو ان هذا الفقيه عاش العهدين أو المرحلتين ، وودع رئيساً واستقبل آخر أو ربما أكثر.. وقال عن حرب حزيران عام 1967 ما قاله من حروب الخليج الثلاث ، وما قد يقوله عن حرب عالمية ثالثة اذا وقعت وهو على قيد التحليل.
ان فهم جدتي لما هو مخضرم أدق بكثير من فهم بعض المتحذلقين الذين يرون بأن مجرد التقدم في السن هو دليل الحكمة ناسين ذلك المثل الشعبي عن البصل وما يؤول اليه عندما يكبر..
الخبراء المخضرمون ضحكوا علينا عدة مرات ، فمنهم من أغرانا باحضار الطبول واعداد الموائد للاحتفال بحرب حزيران التي تعيد يافا وحيفا واللد ولا تذهب بنابلس والقدس وجنين.
لقد أوشكنا أن نصدقهم في حرب الخليج الثانية وما أعقبها ، لأن منهم من حول حروب ما بعد الحداثة الى حرب بسوس أو داحس والغبراء ومنهم من تحدث عن السيوف والدروع والخيل والليل والبيداء في زمن صواريخ كروز وفانتوم بمختلف أجيالها،
نعم ، انهم مخضرمون لكن بالمعنى الذي تعرفه جدتي ، لهذا لم يتعلموا من اخطائهم أو حتى من اخطاء غيرهم ، وبلغوا أرذل العمر وارذل الحرب والسلام وهم يعزفون على الوتر ذاته أنهم ماكثون في كهفهم ، يجترون الذكريات ويستخدمون عملة بائدة لا يكفي طن منها لشراء رغيف ، أما مصطلح استراتيجية أو ما بعد الاستراتيجية فهو بالنسبة اليهم مجرد مفردة ذات مغناطيسية جاذبة ، لا تخدع غير برادة الحديد وما أكثر برادة الحديد ونشارة الخشب الآن،
لقد دافع الخبراء المخضرمون عن أخطاء ساسة وحماقات جنرالات ، لكنهم لم يقوموا وواصلوا الدفاع عن أخطاء اخرى هي أقرب الى الخطايا لأن المعيار ليس الدفاع عن أوطان أو شعوب وقضايا ، ان المنفعة الشخصية والاستجابة الغريزية لأدنى أنواع الامتلاك وقضم الأكتاف.
وبدلاً من أن يعتذر المخضرم عن أخطائه السابقة ويقبل التقاعد ، يفعل العكس لأنه لا يطيق الاهمال والنسيان ولا يحتمل البطالة عن الثرثرة..
كم وطناً أضاعوا حتى الآن بدءاً من فلسطين وكم وطناً بانتظار الخضرمة من فائض عبقريتهم على قائمة الضياع الآن؟
ان وصف رجال لكل العصور لا يليق بهؤلاء المخضرمين ، لأنهم أكثر من ذلك ، فهم مع من يقول باستدارة الأرض ودورانها تماماً كما هم مع من يقول باستطالتها أو وقوفها على قرني ثور.
لا يعي هؤلاء كم تسببوا في كوارث قومية لأنهم بشروا بالأعراس في عز المآتم ، وأقسموا بكل شيء أن ما يرونه عن بعد هو ماء لا سراب..
فماذا يقولون الآن لمن ماتوا من العطس ومن تيمموا بالرمال ودفنوا موتاهم بلا غسل؟؟
(الدستور)