جُذور هذا الإعصار

ما يحدث الآن عربياً ليس مسلسلاً تلفزيونيا تستخدم فيه الذخيرة الحية ويعرض الحلقة الثالثة أو الخامسة من الدراما التي لا يزعم سينارست واحد انه ألفها أو حتى أعدها..
فنحن منذ عقود تحددت علاقاتنا مع الشاشات بالمشاهدة السلبية الصامتة ، وعلى نحو موسمي.. فما أن تنتهي مجزرة قانا مثلاً حتى نشعر بالبطالة مثلما تشعر بها الفضائيات والأرضيات.
أبطال هذا المسلسل التاريخي الحيّ ليسوا عشرة أو عشرين من نجوم السينما ، بل ملايين من الناس الذين لا أسماء لهم غير ما يحققونه من منجزات واستحقاقات كانت طيّ الكتمان تارة وطيّ النسيان تارة..
ان التعامل السائد مع هذه الدراما القومية لا يزال يستمد ثقافته وأدبياته من حقبة البطالة التاريخية ، حيث شمل الاستهلاك العقل أيضاً ، وتحول الانسان الى مجرد اسفنجة تمتص بانتظار القدم التي تعصرها..
قد يسمى هذا الحراك القومي المتنقل والذي تحول فيه الدم الى بديل للماء أو النفط في الأواني المستطرقة تسونامي أو زلزال أو ما شئت من التسميات ، لكنه في حقيقته ليس قيامة مباغتة وبلا نُذُر أو قرائن ومقدمات..
فالداجنون فقط ممن ساروا بمحاذاة الجدران وكانوا حذرين منها لأنها ذات آذان يفاجأون بما يجري ، ففي العقود الخمسة الماضية وان كان هذا العقد هو أعجفها كان هناك أناس يصرخون ، ويقرعون الأجراس ويعاقبون على صدقهم ويكافأ المنافقون من الدببة العمياء على نفاقهم.
كان هناك مثقفون يكتبون ويعيشون خارج المدار المغلق ، وخارج السباق القطيعي الذي أعاد تعريف الانسان بأنه مجرد فم فاغر أو أمعاء تسعى.. وكان على الدوام هناك ناشطون لم يلجأوا الى صيغة "لَعَم" الملفقة من الدمع واللعاب ، وسجن منهم من سجن في صمت ولا مبالاة وهاجر منهم من هاجر بعد أن كظم غيظه ويئس من المراوحة.
إن أي حراك عربي الآن هو حصاد أزمنة تراكم فيها العسف وتفاقمت فيها المديونيات السياسية والأخلاقية ، ثم حان موعد السداد.. إن كان الكلام عن ثوار في هذا الميدان أو تلك الساحة ، فهؤلاء أبناء وأحفاد لأناس لم يكونوا مستغرقين في غيبوبة الكهف أو في سبات سلحفائي.. لكن ثقافة الهلع وهي مرحلة متقدمة جداً عن مجرد الخوف حالت دون الالتفات إلى هؤلاء أو الإصغاء إلى أنينهم في عُزلات بالغة القسوة..
لقد أوشك العربي المعاصر أن يفقد أية قدرة على المبادرة ، واكتفى لزمن طويل بالجلوس صامتاً أمام الشاشات حتى في تلك الايام التي كان الدم فيها يرشح من التلفزيون ويبقع شراشف غرف النوم،
هذا الحراك على اختلاف بيئاته وتفاوت شعاراته ليس نبتاً شيطانياً ، انه ذو جذور سنديانية عميقة في الأرض ، لهذا يتوجب علينا أن نثقب الشاشات لنرى هؤلاء الذين لا يظهرون عليها لأنهم شهداء يتقلبون في قبورهم بانتظار قيامة تُنصفهم في زمن الخذلان والتخلي ، واذا كانت فيزياء الطبيعة تقول بأن المادة لا تفنى فان فيزياء التاريخ تقول ما هو أبعد وهو أن الدم لا يضيع ولا يجفّ وله مصبّّ لا يخطئه،،
(الدستور)