«مترادفات» للإسرائيلي ناداف لابيد: حين تحاول السينما إنقاذ الدولة من الجيش

تم نشره الثلاثاء 30 نيسان / أبريل 2019 12:14 صباحاً
«مترادفات» للإسرائيلي ناداف لابيد: حين تحاول السينما إنقاذ الدولة من الجيش

المدينة نيوز : لا بد لأي قراءة لأي فيلم إسرائيلي أن تكون واعية، فهو عمل فني أولاً، لكنه إسرائيلي ثانياً. ومهما كانت «أولاً» حاضرة في القراءة – وهذا طبيعي- فيجب عدم إسقاط «ثانياً» أو تهميشها. وكي نعيد ترتيب الاعتبارات، فالفيلم – بالنسبة لي- عمل إسرائيلي أولاً وفني ثانياً.
الحديث عن فيلم إسرائيلي يُحتم الأخذ بعين الاعتبار كلا الجانبين: شكل العمل الفني (كيف يقول ما يريد قوله) ومضمون العمل الفني (ما الذي يريد قوله). ولأنني لا أقدم هنا قراءة لفيلم بمعزل عن رسالته السياسية، كإسرائيلي، وأنا كفلسطيني، لا أجد مبرراً للتركيز على الجانب الأول، الجانب الفني من العمل، وإن لم يكن ذلك ليمنع بعض الكلمات عنه كالقول إن الفيلم (هو فيلم فرنسي كذلك) جيد بصرياً، استخدم الألوان بشكل ذكي، تأثر بشكل واضح بـ«الموجة الجديدة» الفرنسية، وذلك نشاهده من خلال الكاميرا المحمولة على الكتف، والمتجولة في شوارع مدينة باريس بين الزحام. في الفيلم استخدامات موضوعية وذاتية للكاميرا، كوجهات نظر، تُدخل المُشاهد في الفيلم وتماهيه مع شخصيته الرئيسية، ثم تُخرجه منه بلحظة. لكن ليس الجودة البصرية للفيلم هي موضوعي هنا، في الحديث عن فيلم إسرائيلي، بل مضمونه، ومن ذلك أنتقل إلى ما أريد قوله.


بالعودة إلى السطر الأول، «لا بد لأي قراءة لأي فيلم إسرائيلي أن تكون…» أضيف أن القراءة إياها لا بد أولاً ألا تكون ارتمائية فيها احتفاء السذج السطحي، وهذا ما يمكن ملاحظته في قراءات عربية عدة للفيلم. يكفي أن تجد انتقاداً لجيش الاحتلال، مهما كان هامشياً، في فيلم إسرائيلي، حتى يصير المخرج بطلاً إنسانياً مخلصاً للفلسطينيين من وحشية جيش قد يكون خدم فيه كمواطن بحقوق وواجبات في دولة كإسرائيل. هذه السذاجة لدى عربٍ تتعلق بفهم خاطئ – أو الأصح: سطحي- لما هي عليه طبيعة إسرائيل، وبالتالي نقد جيشها من قبل أحد مواطنيها السينمائيين. نقدُ الجيش ليس نقداً للدولة، لا يمتد إليها، وهو غالباً حين يكون من سينمائيين/مثقفين، يكون نقداً للجيش لحماية الدولة. لندخل أكثر في الفيلم، في مضمونه ولنترك الحديث عن شكله وعن الاحتفاء الساذج به عند الكلمات القليلة أعلاه.
كي نفهم جيداً ذلك المضمون، لا بد من العودة إلى حرب طروادة، التي أُشير لها مراراً وبشكل مباشر في الفيلم، إذ تتماهى فيه شخصيته الرئيسية – يؤاف- مع أحد أبطالها الهاربين. لن أحكي هنا عن الحرب، بل عن الإشارات إليها في الفيلم من خلال أحاديث يؤاف. فهو يرى نفسه مقابلاً موضوعياً لهكتور، الأمير والبطل الطروادي، والمقاتل العظيم، الذي نفد أخيراً، أو هرب. إشارات أخرى نجدها عن أخيل، البطل اليوناني الذي انتصر أخيراً بعد حصار طروادة لعقد من الزمن، وبعد معارك ملحمية مع أهلها.
إشارات كهذه في فيلم (وإسرائيلي) ليست اعتباطية، ولا تصح أي قراءة للفيلم تكتفي بالحديث عن السترة الكمونية لشخصيته الرئيسية، أو عن رغبته في ترك، أو هجر، دولة إسرائيل وعدم التحدث بالعبرية حتى، فهذه صورٌ مباشرة من الفيلم، لمَ قد يتكلف أحدهم عناء الكتابة عنها! محتفياً برغبة إسرائيلي في ترك دولته لأنها تتعسكر أكثر! القصة بكلمتين هي كالتالي: يؤاف، جندي سابق في جيش الاحتلال، يهرب من إسرائيل كدولة ومجتمع وعائلة ولغة، إلى باريس، طارحاً كل النعوت السلبية على دولته أمام صديقه. والفيلم هو تلك الفترة الأولى التي يعيشها يؤاف في باريس وقد تعرف على شاب وصديقته، فرنسيين بورجوازيين.
الفيلم نقدٌ واضح لإسرائيل، لجيشها قبل أي شيء آخر، لكنه من ذلك النقد «الأخوي» الذي برز مراراً في السينما الإسرائيلية، الذي يريد تخليص دولة الاحتلال من صيتها المتدهْور في العالم، كدولة جيشها (بدل أن يكون الجيش جيش دولته) أو كدولة دينية، لكنه حالُ إسرائيل منذ قيامها في فلسطين، فقد تأسست كعصابات صهيونية، كونت جيشاً كوّن دولة، ولم تكن إسرائيل يوماً دولة مدنية أو علمانية (حتى في بداياتها تحت حكم حزب العمل)، بل عسكرية أولاً، دينية ثانياً، وهي «شرعت» أخيراً ما كان حالها دائماً، دولة لمواطنيها اليهود.

هنالك ضمن المجتمع الإسرائيلي من يمكن تسميتهم تجاوزاً «يسار إسرائيلي»، وهؤلاء (معظمهم لنقل، فهنالك قسم ضئيل هو جذري في نقده ويرجع بالمسألة إلى عام 48) بدأت المسألة عندهم عام 67، ما يريدونه هو إنقاذ دولتهم من التدين من جهة لكونهم علمانيين، ومن العسكرة من جهة أخرى لكونهم مدنيين. لكن، وهذه نقطة أساسية في فهم منطقهم، لا يقع الفلسطيني ضمن حقل بصرهم، فكل ما ينظّرون له وينتجون هو أعمال فنية ضمن تناقضات مجتمعهم، ضمن خلاف أخوة في ما يكون مصلحة العائلة، هو رغبتهم في إنقاذ إسرائيل من شطحات الجيش والمتدينين، كي تكون لإسرائيل صورة الدولة العلمانية المدنية الحديثة الديمقراطية (الوحيدة) في الشرق الأوسط، وهذا نقاش إسرائيلي/صهيوني داخلي، لا مكان للفلسطيني – صاحب الأرض والتاريخ – فيه. خلافاً لذلك، يرى هؤلاء – يرى الفيلم- أن إسرائيل ستموت، أن جيشها بانتصاراته المتتالية منذ الهزيمة العربية عام 67، أنه بنشوته العسكرية تلك والمنعكسة لعقود على دبلوماسيته، أنها ستقتل الدولة. لنعُد إذن إلى حرب طروادة.
يؤاف في الفيلم تماهى مع هيكتور، بشكل مباشر لا لبس فيه، هيكتور الذي هرب لينقذ ما أمكن إنقاذه من أهالي طروادة. ما أراده مخرج الفيلم، ناداف لابيد، كما صرح في حوار هو أن تتخذ إسرائيل هيكتور كمثل، وليس أخيل. ليست حرب طروادة هنا ترميزاً لحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين – فلا مكان للفلسطيني في هذا الفيلم الإسرائيلي- بل لحرب ضمن مجتمع الإسرائيليين، بينهم وبين بعضهم، فذلك يتعلق بتناقضاتهم الداخلية. هو ليس نقاشاً في أحقية إسرائيل أساساً في الوجود على أرض غيرهم، بل في تباين وجهات النظر حول طريقة هذا الوجود، حول الصيغة الأنسب له، واستمراريته، حول – وهذا ما يسعى له منتقدو الجيش- كيفية إنقاذ الدولة من طيش الجيش.
في حوار مع نشرة فرنسية وُزعت في الصالات الباريسية، حيث يُعرض الفيلم حالياً، قال لابيد: «إن تماهي يؤاف (مع هيكتور) ثورة على الروح الإسرائيلية، روحٌ هي ليست فقط روح المنتصر، بل روح الرفض المطلق لأي هزيمة… في إسرائيل تربينا على فكرة أننا ممنوعون من الهزيمة». يؤاف هرب من إسرائيل المنتصرة التي ستودي بانتشاءاتها المتواصلة بانتصاراتها، إلى موتها، بطلُ الفيلم (الذي قال مُخرجه إنه متعلق بإسرائيل) أراد، كهيكتور الطروادي، الهرب لإنقاذ ما تبقى من دولته من انتشاءات وانتصارات الجيش، كما كانت انتصارات اليونانيين بعد سقوط طروادة.
لا يقدم الفيلم نظرة متفائلة لحال إسرائيل، من المشاهد الأولى حتى الأخيرة، وهذا ما نجده في ما قاله المخرج بأن هيكتور لم يُهزم من قبل أخيل وحسب، بل من قبل الموت. فالموت هو، حسب الفيلم ومخرجه، مصير إسرائيل، والموت يعني، في هذا السياق، استمرارية للدولة العسكرية والدينية. وهذا ما دلت عليه انتخابات الكنيست الإسرائيلي الأخيرة.
ليس الفيلم (Synonyms) نقداً جذرياً لدولة إسرائيل لكنه كذلك لسيطرة الجيش عليها، والخلط بين الجيش والدولة هو سذاجة نتوقعها من غير العارفين بتعقيدات المجتمع الإسرائيلي، ومن يريدون تبريراً للاحتفاء بفيلم نال جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين الأخير (أو يريدون تبرير أي احتفاء لهم بأي مُنتَج إسرائيلي). انتقاد الجيش الإسرائيلي – وهي موضة سينمائية إسرائيلية شاهدناها مسبقاً في فيلم «فوكستروت» وحالياً في فيلم «ترامواي إلى القدس» – انتقاد الجيش هو إنقاذ للدولة، هو اختلاف رؤى ضمن حلقة التناقضات الإسرائيلية، هو نقاش محلي لديهم، في كيف تكون إسرائيل أقوى، في كيف تبقى إسرائيل على أرض الفلسطينيين، وسُكانها في بيوتهم.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات