هذه الثنائيات ليست قدرا!!

تورط العرب خلال العقود الماضية بمفاضلة هي اقرب الى المراذلة بين السيئ والاسوأ وبين القبيح والاقبح ، ثم تحولت هذه الثنائية الى ما يشبه القدر.. فعلينا القبول بالاستبداد من اجل الاستقرار وبالسخونة لانها خير من الموت وبأن نتحول الى عور: لان الاعور اهون حالا من الاعمى.
ولا ندري كيف تم بث هذه الثقافة التي حذفت الافضل والابهى من حياتنا ، وثمة من صورونا كما لو اننا القديس كريستو الذي حفر اعواما في زاوية الجدار بزنزانته ليجد نفسه بعد ذلك في زنزانة مهجورة اضيق واشد برودة واوطأ سقفا من سابقتها..
فهل اصبح بالفعل قدرنا ان نبكي ما فات لان ما يعقبه هو الاسوأ بالضرورة؟ ام ان هذه المفاهيم افرزتها ثقافة العسف والارتهان وشلل الارادة ، والتقاعد التاريخي والبطالة السياسية؟
لقد قال بعض المستشرقين: إن العربي اربتط بالاطلال والبكاء عليها ، حتى اصبحت في داخله وقالوا ايضا إن كثيرا من شعراء العرب تباكوا على الاطلال رغم عدم وجودها لمجرد ان هذا التقليد اصبح موروثا وشائعا ، وقد يفسر هذا حالة النوستالجيا او ، الحنين المرضي الى الماضي ، التي تعاني منها الشعوب التي تصورت ان الماضي هو الفردوس المفقود ، وان الامس هو الافضل بالضرورة من اليوم كما ان اليوم افضل من الغد.
ان منشأ هذه الفكرة لا علاقة له بالتاريخ واعمار الشعوب ، بل هو هاجس فردي ازاء الزمن ، ما دام الغد وما بعده سوف يقربنا خطوات من الموت.. وكان يجب ان تتلاشى هذه الهواجس عندما اصبح عمر المجتمع لا يقاس بعمر الفرد ، لكننا على ما يبدو لا نزال افرادا غير قابلين للجمع ، ووفق حاسوبنا القومي المعطوب نحن قابلون للقسمة والطرح والضرب فقط، الان ، تولد من صلب تلك الثنائية حول السيئ والاسوأ ثنائية جديدة هي إما القبول بالاسبتداد او تعريض البلاد والعباد للتقسيم واتاحة المجال للطامعين بان يسيل لعابهم مجددا على ثروات العرب واستقلالهم،
اما من حلقة وسطى بين هذه الاطراف المتباعدة للثنائيات الوهمية..؟ الم تستطع شعوب عديدة في العالم ان تخرج من الاستبداد الى العدل والمساواة والحرية.. وليس فقط الى الحروب الاهلية..؟
ان ثقافة الاستنقاع بكل ابعاده السياسية والاجتماعية والتربوية والثقافية تحرص على اغلاق النوافذ وسد الابواب التي تأتي منها الريح لكي تستريح..
والحقيقة التاريخية عكس ذلك تماما فالماء الراكد هو الذي يتحول الى مستنقع وتطفو على سطحه الطحالب والسرخسيات بعكس الماء الجاري النظيف والمتجدد والذي قال عنه هيراقليطس عبارته الخالدة وهي ان النهر لا يقطع مرتين وذلك بسبب استمرار تدفقه وجريانه..
الثقافة المضادة للريح والشمس والحرية والمساءلة تريد من ضحاياها ان يقطعوا الماء ذاته الف مرة في اليوم بحيث يصبح ما يترسب فيه من وحل الاقدام والاحذية اضعاف ما فيه من الماء..
ان المفاضلة.. بل المراذلة بين الظالم والاظلم والسيئ والاسوأ يجب ان تستعيد البعد الثالث المحذوف والذي يعطيها حيوية الجدل وكيميماء التحول..
فهذه الثنائيات المزمنة ليست قدرًا،،
(الدستور)