عن دعوة هنيّة واستجابة عبّاس

أياّ تكن النوايا ، وبصرف النظر عمّا إذا كان رئيس الحكومة المقالة يقصدها أم لا ، فإن دعوة الأخ إسماعيل هنية للرئيس الفلسطيني محمود عباس للتوجه إلى قطاع غزة ، وإنجاز ملف المصالحة والوحدة الوطنيتين ، هي دعوة مباركة ، وقد جاءت في محلّها وتوقيتها... وأحسب أن استجابة الرئيس عباس السريعة والفورية لتلبيتها ، هي أيضاً خطوة في الاتجاه الصحيح ، وربما تكون القرار الأهم الذي اتخذه الرئيس عباس منذ حدوث الانقسام وتفاقم القطيعة.
قبل أسبوع من الآن ، كنت عرضت على الرئيس عباس في لقاء جمعني به ، أن يطلق مبادرة وطنية ، تقوم على الاتصال المباشر مع حركة حماس ، ودعوة قادتها إلى لقاء في مكان يرتضيه الجانبان ، يومها وجدت الرئيس متحمساً للاتصال بحماس واستئناف الحوار معها ، بيد أنه لم يكن متحمساً لقيامه هو شخصياً بهذا الدور... اليوم جاءت الفرصة ، واللقاء قريب ، وفي أفضل مكان على ما أظن ، في غزة الصمود والمقاومة والحصار.
وقبل أيام ، كنت تحدثت مع أحد قادة حماس في دمشق ، أكد لي بأن الحركة بصدد إطلاق مبادرة جديدة للحوار والمصالحة ، مبادرة تقوم على ركيزتين ، سياسية وتتصل ببرنامج الوحدة والمصالحة السياسي ، وتنظيمية ويتعلق بهياكل ومؤسسات صنع القرار والتمثيل الفلسطينيين ، موضحاً أن المبادرة التي تبدو الحركة بصددها ستأخذ بعين الاعتبار أن ما كان يصلح قبل ثورتي مصر وتونس لم يعد صالحاً بعدهما ، فثمة مياه كثيرة جرت في أنهار المنطقة ، ولا بد من أن يؤخذ كل ذلك في نظر الاعتبار.... هذا التصور يعكس قراءة - من موقع المنتصر - للتطورات العربية... تقابله قراءة للرئيس عباس ليست أبداً من موقع المهزوم ، فقد بدا الرئيس عند الحديث معه ، مطمئنا لسلامة علاقاته وتحالفات العربية ، بمن فيه مع القاهرة.. ولا أدري كيف ستترجم هذه القراءات المختلفة على ملفات الحوار و"التفاوض" بين الجانبين.
لقاء غزة ، مناسبة عظيمة ، لكي تعرض حماس على مبادرتها على الرئيس عباس ، مباشرة ومن دون وسطاء ، بل ومن دون المرور برجالات الصف الثاني في فتح والسلطة والمنظمة... فإن أمكن التوصل إلى اتفاق سياسي - تنظيمي شامل كما تريد الحركة ، فلا بأس ، وإن تعذر ذلك التوافق فلا بديل عن الذهاب إلى "انتخابات توافقية" في الضفة والقطاع والقدس ، وبمشاركة الجميع من دون "فيتو" أو "إقصاء" ، وخلال مدة أقصاها ستة أشهر ، وبعد توفير كل ضمانات نزاهة الانتخابات وشفافيتها ، من إجراءات بناء الثقة مروراً بالاتفاق على مفوضية الانتخابات ومحكمتها ، عطفاً على المراقبين الدوليين الذين يتعين حضورهم بكثافة ، ممثلين للأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ، وانتهاء بإقراء الجميع - تحت القسم - وبحضور الشهود ، باحترام النتائج والانصياع لها إلى غير ما هنالك من شروط ضمّنتها مقالة لي نشرت في هذه الزاوية الأحد الفائت.
بعد نشر المقال ، هاتفني من أخبرني بأن الرئيس عباس يقبل بهذه الفكرة دون تحفظ ، تاركاً الكرة في ملعب حماس... وبعد يوم واحد من نشر المقال ، هاتفني من مكتب الدكتور سلام فيّاض أحد مستشاريه ، ليعلن قبوله بالفكرة تماماً ومن دون تحفظ ، مذكراً بمبادرة الدكتور فيّاض لتشكيل حكومة وحدة وطنية تبقي "الترتيبات الأمنية" في الضفة وغزة على حالها مؤقتاً ، على اعتبار أن "الجانب الأمني" من أي محاولة لبناء توافق وطني فلسطيني ، كان على الدوام سببا في إخفاق هذه المحاولات ، بما فيها اتفاق مكة والحكومة التي انبثقت عنه.
أياً يكن من أمر ، ثمة جديد طرأ على الساحة الفلسطينية خلال الساعات الفائتة ، تمثل في دخول الشعب على خط إنهاء الانقسام... صحيح أن طرفي الانقسام "صعدوا" فوق موجة "شباب 15 آذار" وحاولوا تجييرها واحتواءها ، وصحيح أننا شهدنا صوراً مؤسفة تنتمي إلى "دوار اللؤلؤة" في ساحة الكتيبة في غزة ووسط مدينة الخليل ، إلا أن أحداً لا يمكنه بعد تظاهرات الثلاثاء الفائت ، أن يقول أن شيئاً لم يحدث... نعم الشعب الفلسطيني يريد إنهاء الانقسام والاحتلال.
لا يمكننا فصل دعوة هنية واستجابة عباس عن مجريات الحراك الشعبي الفلسطيني والعربي ، لكن إنهاء الانقسام ما زالت تعترضه عقبات عديدة ، أهمها "لوبي المصالح" و"جماعات الأمر الواقع" على ضفتي المعادلة... ناهيك عن الانقسام السياسي وانعدام الثقة والمخاوف العميقة المتبادلة بين الجانبين... وبصراحة يمكن القول أن أحداً من الفريقين لن يكون جاهزاً لـ"تسليم رقبته" إلى الفريق الآخر ، لا الآن ولا في المستقبل المنظور.
إذن ، لا بديل عن اجتراح سيناريوهات خلّاقة لتفادي هذا الوضع ، وفي ظني أن "سيناريو كردستان العراق" الذي تناولته في هذه الزاوية في شباط من العام الفائت ، ربما يكون واحداً من المداخل أو المخارج للاستعصاء القادم... وهو سيناريو لا يبتعد عن كثيراً عن فكرة تشكيل حكومة تكنوقراط مطعمة بشخصيات وطنية مستقلة ، تحتفظ فيه حماس بأجهزتها ومصادر تمويلها ، مثلما تحتفظ بموجبه فتح بأجهزتها ومصادر قوتها وسيطرتها ، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا... مثل هذا السيناريو يفترض أن رام الله هي أربيل ، حيث البرزاني وحزبه الديمقراطي يتمتعان بالسطوة والنفوذ والمال والأمن... فيما غزة ستكون "السليمانية" حيث يحتفظ الطالباني واتحاده الوطني يحظيان بالسطوة والنفوذ والمال والأمن... أما الحكومة والبرلمان الموحدان ، فهما الإطار الرسمي والقانوني الممثل للإقليم في الحالة العراقية ، وللسلطة في الحالة الفلسطينية.
قد يقول قائل ، أو يسأل متسائل: أي برنامج سياسي سيوجه الحكومة الموحدة ، حكومة الوحدة ، ومن هو رئيس الوزراء الذي سيتولى إدارة دفتها... والجواب في ظني ، أن ثمة فرصة لصياغة برنامج توافقي بالحد الأدنى ، كما حصل زمن وثيقة الأسرى واتفاق مكة ، أما رئيس الحكومة فلا هنيّة ولا فيّاض... يمكن البحث عن قاسم مشترك أعظم ، والشعب الفلسطيني لديه خزان ضخم من الشخصيات المحترمة والإجماعية.
وفقاً لما أعرف ، لا حماس تصر على استمساكها بـ"أبو العبد" رئيساً للحكومة ، ولا فتح مستمسكة بفيّاض... وكما أبلغت من مصادر رام الله ، فإن فيّاض نفسه ، عرض أن يتخلى عن منصبه في حال التوصل إلى اتفاق من هذا النوع ، والرجل كما تقول المصادر ، يدرك أن الاتفاق على إقصائه ، ربما يكون أول وأسرع اتفاق يمكن لفتح وحماس أن تتوصلا إليه ، ولكل منهما أسبابه المختلفة.
ثمة حراك سياسي فلسطيني قوي ، نأمل أن يتواصل على إيقاع الحراك الشعبي الفلسطيني والعربي.. صحيح أن هذا الحراك قد لا ينتهي إلى صيغة مثلى للتوافق والمصالحة والوحدة الوطنية ، لأسباب عديدة... لكن الصحيح أن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه ، وثمة بدائل وسيناريوهات ، يمكن الأخذ بها إن خلصت النوايا وجرى تغليب المصلحة العليا على المصالح الفصائلية الضيقة... فلننتظر لنر.(الدستور)