سيرة ذاتية للغضب!!

للوهلة الاولى.. وربما العاشرة قد تبدو الكتابة خارج هذا المشهد العربي الذي يغمره الدخان ويشعر فيه الاطفال والعصافير بالفزع من أبواق سيارات الاسعاف، والهتافات الصاخبة سواء طالبت بالاسقاط أو الاصلاح أو إنهاء الانقسام كما هو الحال في رام الله وغزة..
الكتابة خارج هذا المدار قد تبدو قرارا وان كان الراديكاليون يرون فيها تواطؤاً قد يصل حد الخيانة، لكن الحقيقة أبعد من هذه الاحكام الانفعالية والأفقية، فما يجري الآن نبع قبل زمن طويل، وما كان بيضاً ينتظر مناخاً ملائماً للتفقيس بدأ يفقس الآن، ولم يعد بالامكان ايقاف النزيف بالأصبع.
والغضب العربي الذي يبلغ أوجه الآن ليس نبتاً شيطانياً، ان له مسيرة ذاتية مفعمة بالشقاء وكظم الغيظ، والاحباط الذي أنتجه انتظار عقيم!.
ونحن هنا لا نتكلم بصيغة “لو”، كأن نقول بأن استدراك كل ما يحدث الآن كان ممكناً لو أن النظم السياسية لم تكن مصابة بالزكام الذي حال بينها وبين شم رائحة الدم عن بعد، سواء كان هذا البعد عاماً أو عقداً أو حتى نصف قرن!
لا معنى الآن لاعادة انتاج ما مضى بأسلوب التمني أو التفكير الرغائبي، فالفؤوس وقعت في الرؤوس، ومن لا يتحسس رأسه عليه أن يدفع ثمن التغاضي واللامبالاة بما يجري حوله وتحت قدميه..
قبل أيام قارن كاتب اسرائيلي بين عام 1848 في اوروبا وعام 2011 في العالم العربي وقال ان ذلك العام الاوروبي هو ما سمي الربيع الاوروبي حيث خلعت عواصف وأعاصير التغيير أبواب قلاع محكمة وعملاقة رغم ان هذا الكاتب استثنى في سرده لقائمة احداث عام 1848 البيان الشيوعي لماركس لأنه كان جذراً لرؤية مضادة للصهيونية تتلخص في عبارة واحدة هي أن اليهود عاشوا بفضل التاريخ وليس رغماً عنه، وان حل المسألة اليهودية يكون باندماج اليهود في السياقات التي يعيشون فيها وتحت سماوات البلدان التي ولدوا فيها وليس فيما سمي أرض الميعاد!
ما يحدث الآن عربياً لم يعد قابلاً للفهم بسهولة رغم ان التجارب تتكرر بحذافيرها كما لو كان السينارست واحداً.
فهي تبدأ بحراك شبابي من خلال الفيس بوك ثم يختفي الأمن ويتدخل الجيش ويتلقى قبلات ووروداً من المتظاهرين كما حدث في تونس ومصر، ثم تتكرر موقعة الجمل في ميدان التحرير بالقاهرة، وينقسم الشارع الى معارضين وموالين، وتتولى الفضائيات انصياعاً للنوايا المشهد كله بعد ذلك فلا تعطي ما لقيصر لقيصر وما للرب للرب كما يقال ومنها من يعطي حصة الرب كلها لقيصر أو العكس!
ان ما يبدو أشبه باعراض جانبية لأي حراك عربي هو أهم وأعمق في دلالاته من أية اعراض جانبية، لأنه يفتضح تربويات وثقافة واعرافاً موروثة، اذ سرعان ما يعود الثنائي الخالد داحس والغبراء في ثياب جديدة كما لو ان التاريخ كله أدخل الى حفلة تنكرية!
واذا كان المطلوب من الكتابة ان تكون مجرد صدى لهذا الطرف أو ذاك، فان الصمت أجدى منها وأعمق، وما يتكرر في كل المراحل الحرجة التي نعيشها هو تجديد صلاحية الثنائية الخرقاء، وهي البياض المحض والسواد القاتم، لهذا تصبح الكتابة من العقل في مثل هذه الاجواء مجازفة، لأنه لا وقت لها وما من تقاليد ليبرالية تتيحها، فالديكتاتورية ثقافة وتربية وليست نظم حكم فقط، ونحن جميعا نتقنها عندما يتطلب الموقف احتكار الصواب وادعاء المعصومية.. لأن الآخر هو المذنب دائماً!!(الدستور)