بنك الحُكماء!!

ترردت مفردة الحكماء أو العقلاء كثيراً في هذه الآونة الحرجة، فما ان تداعت الجدران والسقوف المتصدعة حتى سارع البعض الى البحث عن هؤلاء الحكماء، لانقاذ ما تبقى، وبدت المسألة كما لو أن لدى العرب بنك حكماء كبنوك الدم، يمكن استدعاؤه عند الحاجة واذا ما تدفق النزيف.
لم يكن سهلا على من بحثوا عن ملاذ في الحكماء أن يجدوهم بسهولة، لهذا رأينا أناساَ عاديين بكل المقاييس في أكثر من عاصمة وحراك عربي يدرجون في قائمة الحكماء، فالندرة احياناً تفرض معيارها، وحين نقرأ قوائم تعد على عجل بأسماء الحكماء في هذا البلد أو ذاك من العالم العربي نشعر على الفور بأن هؤلاء العقلاء قد شربوا أيضاً من نهر الجنون، كي يستطيعوا التأقلم مع واقع لا علاقة له بالحكمة الا اذا كانت تقتصر على خداع الآخرين وادخار القرش الأبيض لليوم الاسود!
ويبدو ان العرب كانوا يتوهمون بأن لديهم مخزونا كبيراً من الحكماء، وهم بانتظار أن يطرق أبوابهم من لم يطرقها يوماً، ويسألهم عن المفتاح للحل من لم يقرأ لهم سطراً وربما لم يسمع بأسمائهم، لأن أبطال هذه المرحلة هم نجوم الكرة والشاشة ورجال المال الذين تملأ صورهم وأخبارهم الطريفة المجلات والصحف.
في مصر تنادى الناس بحثاً عن حكماء، ليس لكي يجترحوا معجزة ويقولوا للثورة كوني فتكون، والآن يبحثون في اليمن عن حكماء، وسيتواصل البحث عن هذه السلالة المنقرضة الى أجل غير مسمى، ذلك لأن عرب العقود الماضية بددوا بسفاهة نادرة ثرواتهم وثوراتهم مثلما بددوا احتياطياتهم الاستراتيجية كلها ومن ثم بددوا حكماءهم، لأنهم فرضوا عليهم أن يشربوا من النهر ذاته، وأن يكذبوا ويزدوجوا كي يستطيعوا الحياة بدءا من تعليم أولادهم حتى أمراض شيخوختهم، وما قاله الشاعر يوماً بأنه يفتح عينيه على كثير حين يفتحها فلا يرى أحداً، يليق بهذه الشّحة التي نعانيها كعرب الآن وهي شحة الحكمة وأنيميا العقل السياسي.
فنحن نصغي أحياناً لخبراء الاستراتيجية وفقهاء الحروب الاهلية فلا نسمع غير كلام شاحب ومتكرر سبق لنا أن سمعناه ونسيناه ان لم تكن الذاكرة قد عافته لفجاجته وتقيأته..
خبراء الاستراتيجيات ورطونا بأربع أو خمس هزائم على الأقل بعد أن بشرونا بالانتصار، فقهاء الحروب الأهلية لا يعرفون أن النار من مستصغر الشرر أو ان الغاب يحوله الى رماد عود ثقاب واحد!
ما من تفكير وقائي على الاطلاق في مجتمعات تعيش حياتها من يوم الى يوم، وأحيانا من وجبة الى وجبة على طريقة المتسولين، لهذا فان قناطير العلاج تخفق في أداء مفعولها عندما تأذن اللحظة الحاسمة، ولو أردنا اعادة تعريف الحكماء لقلنا أنهم وفق معايير زماننا من صفقوا للديكتاتور حتى أتخمهم ومن طلبوا له وهو يرحل وهم من قالوا ان الارض لا تدور وهم في الخمسين من العمر.. ثم اكتشفوا أنها لا تدور في الستين، وأخيراً اكتشفوا أنها تدور لكن حول الديكتاتور فقط، وكان ذلك بعد العقد السابع..
ليس لدينا كعرب بنك حكماء أو بنك أهداف بعيدة، فنحن نعود كل نصف قرن الى أول السطر.. لهذا ما أكثر الأعتاب وما أقل البيوت، وما أكثر الحكام وما أقل الحكماء!(الدستور)