الرقصة العمياء!
لم يكن امام الفلاحين عندما عصبوا عيون الثيران او البغال وهي تدور حول السواقي من سبب سوى خديعة هذه الحيوانات بحيث تتوهم بانها تسير نحو غاية ما ولكي لا تصاب بالدوار وهي تكرر الدورة ذاتها كل دقيقة. ويبدو ان البشر ايضا نوعان منهم من يسعى الى غاية ما فلا يحتاج الى ان تعصب عيناه ومنهم من يدور حول نفسه وكأنه يمارس رقصة عمياء، وثمة احداث جسام سواء كانت من صنع التاريخ او الطبيعة تختبر منسوب الذكاء والاستحقاق لدى الكائنات لهذا منها ما اختصر الطريق وانقرض، لان خللا جذريا اصابه فلم يكن يشعر بالالم الا عندما يصل الى مقتله.
ومنها ما تأقلم مع الطوارئ، او استجاب للتحدي حسب نظرية ارنولد توينبي الشهيرة وهي ثنائية الاستجابة والتحدي، وما يصح عضويا على الكائنات، يصح بدرجة اكبر وادق على الحضارات والثقافات، وحسب نظرية توينبي فان هناك حضارات شاخت وبادت بعد ان سادت زمنا لانه لم تملك طاقة الاستجابة لتحديات تاريخية كالغزو او طبيعية كالكوارث ومتغيرات البيئة.
انها داروينية من طراز اخر. وهي قابلة للتأويل السياسي والعسكري، والفارق بين حضارات او شعوب بادت واخرى باضت هو ان الاولى فقدت الاستشعار عن بعد ولم تدرك الخطر الا بعد فوات الاوان بحيث لم يعد الاستدراك ممكنا.
بينما احتفظ النمط الثاني من هذه الحضارات او الشعوب بما يشبه قرون الاستشعار فسلكت دربا مغايرا عندما آمنت بجدوى الوقاية وعدم جدوى قناطير الدواء، وقد لعب هذا الهاجس الاستباقي دورا في انقاذ شعوب كانت قاب معركتين وليس قوسين فقط من الهاوية، وهذا ما يفسر لنا كيف تحولت هزائم كبرى لدى دول كاليابان الى رافعة مقابل امم اخرى تحولت الهزائم المتعاقبة لديها الى انتحارات قومية بطيئة، خصوصا عندما افرزت هذه الهزائم مناخات وثقافة من الاحباط انتهت الى التلذذ بقضم الذات او الاصابة بالماسوشية التي تحول الكائن الى جلاد لنفسه.
وما مرت به البشرية من عصور انحطاط واستعباد وقطعنة لم يتح لها النجاة مما اصاب الثيران والبغال، التي عصبت عيونها كي لا تعي ما تفعل، بحيث تظل تدور حول نفسها بلا معنى. ولم تكن الثورات الجذرية الكبرى في التاريخ مجرد خلع حكام او تكسير صولجانات بقدر ما كانت نقدا عميقا وبنيويا لثقافات تسعى الى تدجين الانسان واضعاف مناعته وبالتالي تحويله الى قطعة غيار او مجرد مسمار يصلح لان يدق في مهد او تابوت او كعب بندقية او حذاء!
لقد دار الانسان حول نفسه مربوطا بهذا الحبل القصير او بذلك الاطول منه.. وآن له ان ينزع ما عصبت به عيناه كي يفرق بين الدوران العقيم والسعي البصير!!(الدستور)