الأمية الثالثة!

غالباً ما يتحدث المعنيون بالتعليم عن نوعين من الأمية هما الأمية بمعناها الأولي والمتعلقة بالقراءة والكتابة والأمية الاكاديمية التي تستشري في صفوف المتعلمين وهي بمعنى أدق أمية ثقافية تشمل أبعاداً سياسية ومعرفية واجتماعية. أما الأمية الثالثة وهي ثالثة الأثافي -كما كان يسميها أسلافنا القدماء لكي تستكمل الخيمة انتصابها- فهي أمية التأهيل لا بالمعنى المهني فقط، بل بالمعنى التربوي المتعلق بحقوق الانسان والديمقراطية والتدريب على قبول الآخر والحوار معه بدلاً من حذفه أو اقصائه، وهذا المستوى من التأهيل لا تقوم به معاهد أو مؤسسات بقدر ما يفرزه المجتمع ذاته وبشكل يومي من خلال احتكاك الأفراد ببعضهم.
ولا ندري كيف يمكن لمن لم ينتخب أحداً أو ينتخبه أحد طيلة حياته ان يفهم المقصود بالديمقراطية، لأن ما يسمعه عنها أو يقرأة عنها في وسائل الاعلام يجعله أقرب الى من يتعلم السباحة على سريره أو على حوض مليء بالرمل!.
التأهيل بهذا المعنى ليس مهمة تناط بدولة أو جهة شعبية محددة، لأنه مناخ أولاً وثقافة تترسخ بمرور الوقت، فمن يحبو لا بد ان يتعثر قبل أن تستقيم قامته على ساقيه والشعوب التي عاشت قروناً وهي تسمع عن الديمقراطية، وتظنها احياناً نوعاً من المعجنات لا بد ان تخطىء في استخدام اية نسبة ما في حال توفرها، ومن اعتادوا على نمط من التفكير يحكمه المونولوج أو التداعيات الفردية والاصغاء لا بد ان تصدمهم في البداية ثقافة الديالوج أو الحوار بقدر من الندية مع الآخر، فالطبع يغلب التطبع ولدى شعوب العالم كلها أمثال دارجة عن السرعة التي يعود بها الكائن الى ما اعتاد وتربى عليه وان كان الفرنسيون يختصرون المسألة بمثل يقول اقشر الفسيفساء لتجد الطين والجص تحتها!.
التأهيل في هذا السياق ممارسة، وتجريب يقترن بالتعثر وارتكاب الاخطاء، لأن ما ترسخ من عادات ذهنية يفسد بتدخله السريع كل ما هو طارىء من سبل التطوير والتغيير والارتقاء، وحين تشح نسب من يمارسون حقوقهم في الانتخاب عبر مختلف مجالاته فان معنى ذلك أحد أمرين، اما الافتقار الى الوعي بهذه المسألة منذ جذورها، أو الاحساس بعدم الجدوى، لان هناك شكوكاً في النزاهة تجعل المرء يشعر بالعدمية وبأن صوته لا قيمة له، والاكتفاء بوعظ الناس بأهمية مثل هذه الممارسات المدنية لن يكون له أي مفعول لأن ثقافة المواعظ وسرد الحكم بمعزل عن ملامسة الواقع والحاجات الفعلية لدى الناس يبقى مجرد كلام فاقد لمحتواه لفرط تكراره في كل المناسبات!.
واذا سلمنا بأن الاستبداد بكل تجلياته التاريخية هو السائد في ثقافة الاستحواذ وشحذ نوازع الامتلاك، والحذر من الآخر باعتباره غريماً وليس شريكاً، فان بث ثقافة بأطروحات انسانية واجتماعية مضادة للاستحواذ والاحتكار هو بمثابة تلقيح وقائي للأفراد من الاصابة بهذا الوباء، الذي تحول جرثومته في حال انتشار عدواها الناس الى اعداء الى ان يثبتوا العكس، والى متهمين الى ان يبرهنوا على براءتهم، وهذا بحد ذاته نقيض الاصول والأسس المنطقية والقانونية، لقد اخفقت تجارب القطاع العام اقتصاديا في الاقطار العربية التي تبنت صيغة ملفقة من الاشتراكية بسبب قوة الغرائز وفائضها الوحشي في مجتمعات لم تؤهل بما يكفي للمشاركة وأدبياتها، ولو راجعنا العديد من التجارب السياسية والاقتصادية في عالمنا العربي خلال اكثر من نصف قرن لوجدنا ان سبب الاخفاق فيها لم يكن خارجيا أو بفعل التآمر، بقدر ما كان بسبب الأمية الثالثة.. وهي أمية التأهيل!.(الدستور)