الانتفاضة الدائمة

أحياناً يكون تحقيب مراحل التاريخ اجرائياً ولأسباب تفرضها زحمة الاحداث وتسارعها ومن ذلك الانتفاضات الفلسطينية، التي يؤرخ لأولها في نهاية الثمانينات من القرن العشرين، ومن الناحية التاريخية لم تكن تلك الانتفاضة هي الاولى الا اذا عُزل التاريخ الفلسطيني بعد حرب حزيران عما سبقه، فمنذ وعد بلفور وربما قبله أيضاً لم تنقطع الانتفاضات والاضرابات، ومنها أطول اضراب في التاريخ وقد دام ستة أشهر عام 1936، لهذا فان ما يسمى الآن الانتفاضة الثالثة أو التمهيد لها هو في حقيقته امتداد لعشرات وربما مئات الانتفاضات الشعبية في فلسطين لأكثر من قرن، فالتاريخ ليس دودة شريطية، كما ان الحروب حتى لو كانت حاسمة كحرب حزيران لا تشطر هذا التاريخ الى ما قبل الهزيمة وما بعدها، خصوصاً وان القضية الفلسطينية تعيش منذ أربعة وأربعين عاماً ما يمكن تسميته اليوم السابع في حرب الأيام الستة، لأن الاحتلال لم يتوقف، بل أضيف اليه الاستيطان الذي يضاعف من خطورته على الأرض والانسان والذاكرة الوطنية!
ولأن التاريخ بجدليته لا يسمح لأي امبراطور أو صاحب نفوذ أن يدجن مجراه فإن ما هدد به الاحتلال الفلسطينيين إذا واصلوا استذكار النكبة، أشبه بالسحر الذي ينقلب على السحرة كلهم، فجاءت ذكرى هذا العام بخلاف سابقاتها، مفعمة بالرجاء، ويربطها حبل سرة مع واقع عربي جديد يجترح آفاقاً كانت محرّمة من قبل، ويستعيد توازنه وتماسكه وكبرياءه القومي المسلوب، لكن الفلسفات الغيبية والتي ترتكز الى الاسطورة لا الى التاريخ تسقط في الكمين الذي تنسجه لغيرها وتجني على نفسها من حيث تظن أنها تجني على من تعتبرهم أعداءها الأبديين، فكلما ازدادت حدة مطرقة الاحتلال تضاعفت ردود الفعل، وعلت نبرة المقاومة، فالهوية عندما تُجَرح تفيض نكهتها في الرّوح،
لكن من حسن حظ البشرية ان جدلية التحدي والاستجابة وبالاسلوب العلمي الذي قدمه واحد من ابرز مؤرخي عصرنا هو ارنولد توينبي تحول دون استمار القوي في قوته لانه يصاب بالعمى بسبب هذه القوة عندما تفيض عن حاجته الدفاعية وبأبسط المقاربات الحسابية التي لا تفوت على تلميذ عربي في الابتدائية، ان الاحتلال بعد ثلاثة وستين عاما اضاف عاما جديدا الى الاحتلال مثلما اضاف اعواما وليس عاما فقط لعمر المقاومة، اما اذا كان الرهان على النسيان وتحويل الاحتلال بمرور الوقت الى استحقاق تاريخي وامر واقع فان هذا النمط من الرهانات اسقطه التاريخ تباعا، منذ بواكير اسبارطة حتى خاتمة الاحتلال الامريكي للعراق.
لنسمها انتفاضة ثالثة او حتى عاشرة فالاهم من هذه الارقام هو الاجساد التي تحملها والدماء التي تعطيها رصيدا، ولو شئنا الدقة التاريخية فان هناك انتفاضة فلسطينية واحدة ذات عشرات الحلقات او الفصول، لان ما يتصوره البعض مرحلة من الخمول الوطني او التأقلم القسري مع الاحتلال بسبب الخلل في موازين القوة هو مجرد وهم او خطأ ارتكبه حاسوب يفقد معظم ذكائه عندما يُحصي الدم!
ثلاثة وستون عاما من الاحتلال هي ضعف هذا الرقم من المقاومة بمقياس تقاويم اخرى!! (الدستور)