ما وراء الشاشات

كانت الحرب الباردة في طور الاحتضار عندما بدأت الميديا ومراكز الابحاث الاستراتيجية تبث مسودات او اسكتشات أولية لأطلس جديد، بتضاريس مختلفة ومقاييس رسم غير مسبوق، ذلك لأن لا عالم بعد كل حرب يكون قابلا لتحولات تنهض خلالها كيانات وتسقط اخرى، تماماً كما ان المفاهيم ايضا تتعرض لمثل هذا الصعود والهبوط، لهذا ما كان بعض المعقلين يتداولون من مشاريع كالتي قدمها وولفويتس في نهاية السبعينات من القرن الماضي، ثم ما اقترحه برنارد لويس حول كيانات طائفية اضافة الى اليوتوبيا التي تخيلها شمعون بيرنر عن الشرق الاوسط الجديد وما أعقبه من أطروحات بوشية تولت تسويقها كوندليزا رايس.. كل هذا لا يختفي الآن من ذاكرة المراقب. وهو يرى تحولات دراماتيكية في الشرق الاوسط، وانجاز مهمات كانت للتو عسيرة بل مستعصية! لهذا فاللحظة الراهنة لا تنقطع عن مقدماتها كما أنها لا تنقطع ايضا عن المرسوم استراتيجياً في المدى المنظور على الاقل.
وقد يظن البعض ان استدعاء مثل تلك المشاريع الآن يكرس مفهوم المؤامرة، وان ما يجري هو تلبية سياسية وميدانية لما كان قيد التخطيط الاستراتيجي، لكن الواقع سواء كان الشرق الاوسط أو أي اقليم آخر في العالم ليس مجرد عجينة رخوة تصلح لأن تُصنع منها كعكة أو تمثال أرنب أو عصفور، فالواقع ملغوم بمكونات وعناصر ذات جذور تاريخية، ولا يمكن له ان يصبح مجرد مادة خام للاستثمار السياسي قدر تعلقه بأجندات خارجية، نعرف مثلاً ان ما يجري لم ينبع للتو كما انه ليس نبتاً شيطانياً بحيث نفاجأ به ونحار في تفسير أسباب حدوثه.. فالحراك بمختلف درجات ايقاعه وحرارته وبرودته لم يتوقف ذات يوم الا اذا شاءت الميديا تهريبه وتحويله الى مسكوت عنه، وما من تغيير يحدث الا وله شرطان أولهما ذاتي داخلي والآخر موضوعي، وحتى عندما تريد جهة ما استثمار حراك معين وتجييره لصالح أجندتها فلا بد أن تكون هناك عوامل ذاتية وداخلية تتيح هذا الاستثمار وتبرره الى حد ما.
نذكر ان الكسندر هيج اطلق عبارة ذات يوم تصلح مدخلاً نموذجياً لقراءة التحولات الشرق أوسطية، فقد قال صراحة ان هذه المنطقة هي المجال الاكثر حيوية للولايات المتحدة، وستبقى البؤرة الأشد سخونة الى أمد طويل، ثم أضاف اليه برجنسكي مستشار الامن القومي الاسبق في امريكا عبارة تطيل من هذا الأمد.. حين قال ان العقود الثلاثة الاولى من القرن الحادي والعشرين ستكون امتدادا لنفوذ الولايات المتحدة في عدة مناطق من العالم وفي مقدمتها الشرق الأوسط!
ولو شئنا التعبير مجازياً ولدينا ما يغري بمثل هذا التناول بسبب شحة الوثائق والمعلومات فان الحمْل لم يكن كاذباً في مناطق الحراك العنيف والصراع بين نظم وشعوب لكن مدة الحمل قد تكون اختزلت الى أقل من تسعة شهور، لأن الولادة العضوية والطبيعية بعد مخاض عسير غير مرغوب فيها لمن يحلمون ولو بمربط حصان على الشاطىء الشرقي للبحر المتوسط..
نحتاج الآن الى اعادة النظر بمفهوم المؤامرة فهي حسب الرؤى الاستراتيجية تحتاج الى تعريف آخر، لعله استثمار في تحول أو حراك في العالم لصالح من يظن أن بيده وحده الحل والربط!! ( الدستور)