كُتِبَ هناك .. أيضاً!

قبل اسبوع كتبنا في هذه الزاوية التي تراوح بين الحرج والانفراج تحت عنوان صنع هناك أن كل ما هو ممهور بالتواقيع الاجنبية يحظى بالصدقية واليقين، لأن الذات الجريحة وسايكولوجيا المقهورين تتلخص في أمرين أولهما احتقار الذات وازدراء كل ما يماثلها وثانيهما النظر الى الآخر على أنه النموذج للتفوق والاكتمال، خصوصاً عندما يكون هو الغالب حسب المصطلح الخلدوني الشهير، ما صنع هناك قد يكون أدق وأمهر بسبب التقدم العلمي وتراكم التجارب في مجال لا يقبل حرق المراحل.
لكن ما يكتب أو يرسم أو يعزف هناك ليس بالضرورة هو الارقى والأمهر، لكن هذه الافرازات لا تعترف بالتفوق العلمي، ومن تفوقوا في الفنون والآداب وبالتحديد الشعر والرواية من آسيا وافريقيا ينتمون الى دول اغلبها متخلفة وتعاني من ضائقة شديدة في كل ميادين حياتها، لكن الدافع الى المفاضلة بين ما يكتب هناك وما يكتب هنا هو ذاته الذي تخضع له الذات المهزومة والفاقدة للثقة بنفسها وبكل ما يجاورها أو تتصور أنه يشبهها، وقد جرب أكثر من صحفي عربي ان يقدم للقارىء نصاً أو رسماً موقعاً بحروف لاتينية، فكانت النتائج كوميدية وسوداء أيضاً لأن استلاب الوعي إزاء الآخر الافضل حال دون معاينة تلك النصوص، لأنها تحمل فيزا الدخول بلا أية مراجعة أو رقابة الى من يعانون من عقدة النقص واللااستحقاق، وأول من مارس هذا النمط من التجارب اكاديمي بريطاني هو د. ريتشارد حين قدم لطلابه نصوصاً غير موقعة ومجهولة المصدر، فوجد أنهم يقرأونها بحرية ودونما سطوة من تلك التواقيع ذات النفوذ السحري.
وأحياناً تستمد الكتابة مكانتها من المنبر الذي تنشر فيه، وقد لا تلفت النظر على الاطلاق اذا نشرت في منابر محلية محدودة الانتشار، وقد يستغرب القارئ العربي اذا عرف ان هناك كتابا فرنسيين وبريطانيين وامريكيين يحسدون المثقف العربي على المناجم التي يعيش فوقها او بالقرب من فوهاتها لكن الكاتب العربي لا يرى ما هو اقرب اليه من قدميه خصوصا بعد ان بلغ به الاستلاب حدا جعله يكتب ما يتصور انه صالح للترجمة، وهو لا يدرك ان من يقرأونه مترجما الى لغاتهم يهزون اكتافهم ساخرين ويقولون: هذه بضاعتنا ردت الينا..
ان كتابا من العرب الذين يعيشون في الغرب ويكتبون بلغاته اثاروا قدرا كبيرا من الاهتمام لانهم يكتبون هناك عن هنا امثال الطاهر بن جلون وامين معلوف، ان الجائع الذي نذكر امامه اسماء اطعمة من طراز شاتوبريان او فيليه لن يسيل لعابه على الاطلاق. لانه لا يعرفها واحيانا نجد عربا يكتبون عن بسكويت ماري انطوانيت وليس عن فلافل مسممة بالزيت المؤكسد، او عن التسامح الجنسي في بلدان تتصدر قائمة جرائمها جريمة الشرف.
ما صنع هناك سواء كان دواء اوطائرة او كومبيوتر قد يكون الافضل بمقاييس علمية لكن ما كتب هناك قد يكون وصفة من الاسبرين وكمادات الماء البارد لمرضى الايدز!!!(الدستور)