مقاسات الاصلاح

كثر الحديث عن الاصلاح إلى درجة جعلته ضبابيّاً ورمادياً ولم تزده كثرة الحديث وضوحاً وسطوعاً, فالمعارضة تتحدث عن الاصلاح والحكومات تتحدث عن الاصلاح, والقوى الاجتماعية والكُتّاب والمثقفون يتحدثون عن الاصلاح كلٌ بطريقته.

ولقد سمعت بعض التصريحات الحكوميّة تقول موجهةً الكلام إلى بعض الاطراف أنّها تريد الاصلاح على مقاساتها, وقد جلبت انتباهي عبارة "مقاساتها", وقلت في نفسي لماذا لا نتفق أولاً على مقاسات الاصلاح ومضامينه الجوهرية في ظل معركة المفاهيم والمضامين الاصلاحية الكثيرة والمتعددة.

بعض الجهات المعادية للإصلاح تتحدث عن الاصلاح بمضامين غائمة وعائمة بشكلٍ متعمّد, من أجل إحداث البلبلة والتشكيك, وتمييع مصطلح المعارضة في نفوس الجماهير وعامّة الشعب.

بعض الاطراف التي وجدت نفسها خارج عملية الاصلاح وخارج التاريخ, أصبحت خائفة ومذعورة من أن تخرج من "المولد" بلا "حمص", ولذلك سارعت إلى اتهام عملية الاصلاح بأنّها مؤامرة خارجيّة, وأنّها صناعة أمريكية, من أجل تشويه العملية الاصلاحية, وتشويه المطالبين بالاصلاح, والعمل على إعاقة عمليّة الاصلاح والتعاون مع كل الذين يعملون على وأدها إلى الابد بطريقة غريزية هابطة.

أطراف أخرى تعمل على تصوير عملية الاصلاح بأنّها عملية عدوانية موجهة للدولة والنظام, وعمدت إلى خلط الولاء مع الفساد بطريقة عجيبة جداً, وخطيرة جداً, على الدولة والنظام أولاً; لأنّ هذه الطريقة تسيء إلى النظام والاجهزة الرسمية وتضعها في مواجهة الاصلاح وجهاً لوجه بنتيجة حتميّة لتصرفات خرقاء تخلو من بعد النظر, وتخلو من التفكير المنطقي السليم, ومهما تكلفت القول تفضحها تصرفاتها وسلوكها ومواقفها العملية.

لكن ما يتمّ الاتفاق عليه أنّ الاطراف الحقيقية الفاعلة والمؤثرة في العملية السياسية أجمعت على المطالبة بالاصلاح وأنّه ضرورة يجب البدء به فوراً من دون تأجيلٍ أو إبطاء, وهذا ما تمّ التصريح به علانيةً وبمنتهى الوضوح من أعلى المستويات.

ما ينبغي الاتفاق عليه هو مضامين الاصلاح ومقاساته, ومعاييره الثابتة التي لا تحتمل خلافاً, حتى تخرج من مربع الغموض والرمادية. وبحدود ما أعلم فقد أعلنت القوى السياسية والاجتماعية مضامين الاصلاح التي تريد, وأعلنت معظمها بوضوحٍ تام.

تشير بعض الدراسات التي تمّ إجراؤها حول هذا الموضوع أنّ (87%) من المنادين بالاصلاح يكادون يتفقون على مضامين محددة ومتشابهة, تدور بمعظمها حول إصلاحات دستورية تعيد السلطة للشعب وتهيئ لتشكيل حكومة برلمانية, خاضعة لاختيار الشعب ومراقبته ومحاسبته, اضافة إلى مجلس أمّة قادر على القيام بمهامّه الدستورية من تشريع ورقابة, ومحصّن من الحل, وبعيد عن تغوّل السلطة التنفيذية, اضافة إلى استقلال القضاء, والفصل بين السلطات, والوصول إلى مبدأ تداول السلطة بطريقة سلمية ومتدرجة, بعيدة عن العنف واستخدام القوّة.

والان ما نحن بصدده أن يعلن الطرف الرسمي رؤيته للإصلاح بدقة, وأن يحدد مضامين الاصلاح بوضوح, وأن يضع برنامجاً زمنيّاً معقولاً لتنفيذ خطوات العملية الاصلاحية, وما هي النهاية لشكل الاصلاح, وما هي مقاساته المتفق عليها, حتى نخرج من مربع التلاوم والتحشيد وتبادل الاتهامات بالضبابية والرمادية; حتى يتبين للناس الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر الاصلاحي المقبل لا محالة.(العرب اليوم)