توجان تختم بماجد المجالي في حديثها الجديد عن البرادعي ومبارك

المدينة نيوز - توجان فيصل : في مقالتنا السابقة , تحدثنا عن تأهل البرادعي لنمط المخلص لمصر من زاوية ميثولوجية تبحث في الوجدان الشعبي للمصريين, كجزء من الوجدان الجمعي البشري / المدينة نيوز : ابحثوا عن المقالة في الارشيف / لاعتقادنا بان ظاهرة البرادعي لا يمكن أن تفهم سياسيا فقط , بل وتظلم إن فهمت كذلك. والأهم أن فهمها المجزوء من باب السياسة وحدها قد يؤدي إلى توقعات سياسية خارقة , تؤدي هي بدورها إلى خيبات أمل كبيرة تعيق مسيرة الإصلاح السياسي المطلوب . ولهذا توقفنا عند ما هو " خارق " في هذا الإحتشاد خلف البرادعي , لنأتي في مقالتنا الثانية هذه لما هو مطلوب ضمن الممكن , أي لما هو سياسي .
قيل الكثير عن كون البرادعي " خيار ضرورة " وليس مطلق خيار, وأيضا عن كونه " مرشح افتراضي " وليس مرشحا حقيقيا . وهو في الحقيقة كلاهما , ولكن هذا لا ينفي إمكانية أن يصبح البرادعي مرشحا " بحق وحقيق " ,كما يقول أخوتنا المصريون .. بدءا بتحقق إمكانية ترشيحه بتعديل الدستور أو تيسر أي خرق آخر لمنظومة الاحتكار التي أرسيت في عهد مبارك بما لا يتوقف عند تطويع وقولبة الدستور على مقاس أفراد بعينهم .. ثم بطرح البرادعي لبرنامج سياسي متكامل لمرحلة ما بعد اجتياز عتبة وعقبة الترشيح والولوج في فعل الحكم ذاته .
فالعمل السياسي من الداخل ( أو دخول مطبخ السياسة ), شأن تكنوقراطي مثله مثل أي حقل مهني آخر , ولا يجوز اختصاره ب "الموقف السياسي " الذي يتلخص في رفض التمديد للنظام الحالي وتوريثه والمطالبة بدلا منه بالديمقراطية وتداول السلطة . فهذا ما أعلنه , وقبل البرادعي بسنوات , كل مصري ومصرية ممن تظاهر أو أعتصم أو كتب أو وقع عريضة أو أيد أيا من هذا كله, مما اختصرته البلاغة العامية المصرية المعروفة , بكلمة " كفاية " .
" كفاية " هي الموقف السياسي الذي يريد لمصر أن تنفض عن نفسها أردان هذه المرحلة لتعبر إلى مرحلة جديدة . ولكن الفعل السياسي يبدأ من هذا, من كيفية التجاوز والعبور, ليستمر لحين اكتمال بناء البديل على أسس راسخة غير قابلة للتقويض أو العبث , بقي البرادعي ومن حملوه لسدة الحكم أم ذهبوا . والفعل السياسي هو الأصعب لأنه يغوص في التفاصيل وتشابكاتها غير الظاهرة للجميع, وبالتالي غير المتمتعة بذات الدرجة من التقدير أو حتى مجرد تأييد الإجراء اللازم أحيانا . يضاف لهذا أن الفعل التأسيسي بعمومه - وهو ما يلزم مصر الآن - عملية بناء تكون أساساتها عادة الأقل جاذبية للناظر, والكثير من أوجه الإنفاق فيها ( ونقصد إنفاق الجهد وإن لم نستثن المال ) غير مفهومة للغالبية الساحقة من الحشود التي حملت مطالب التغيير وتنتظر نتائجه بلهفة واستعجال. ولو كانت المهمة بناء من الصفر, لهانت , ولكنها في مصر سير في الكثير من الركام والحطام في محاولة لاستصلاح ما يمكن وتبديل ما يلزم بأقل ضرر وكلفة , وحتى غض الطرف عما يمكن تأجيله .. والأصعب هو الإضطرار لتأجيل بعض ما لا يجوز تأجيله .
"فالضرورة ", هذه التي حطت فجأة وفرضت البرادعي على غير ما هو متوقع منذ عقود كان يجري العمل فيها على التغيير, ستحط ثانية وبذات الفجائية والحتمية وعند أكثر من مفصل . والكلام سهل إذا ما قورن بالفعل, وتجربة أوباما خير دليل, رغم كونه رئيس أكبر وأغنى وأقوى دولة في العالم . والقلة من سياسيي العالم العربي الذين أتيحت لهم فترة من العمل على تحقيق ما طرحوه تحت شعار الإصلاح أو التغيير , يعرفون كم هي مضاعفة المصاعب التي تقف في طريقهم الوعرة التي أغلب شعابها لم تطأها قدم من قبل , والمفتوح منها لا يقارن " بالطرق السريعة " المتاحة في ديمقراطيات الغرب .. ويبقى الأكثر صعوبة على الإطلاق , وهو أن التوقعات من البطل المنقذ هي غير التوقعات من السياسي الآتي لمنصب حدوده وصلاحياته معرفة وراسخة منذ أمد يصل في الديمقراطيات العريقة لقرون, ومجيء ذلك السياسي للمنصب يقع ضمن سياق مؤسسي, بل وروتيني, بغض النظر عن درجة تميزه أو تخلفه .
وهذا بمجمله يرتب على البرادعي , في رأينا , ترتيب أولوياته بمنتهى الدقة والواقعية . بداية , عليه أن يعلن نفسه مرشحا حقيقيا ويسقط صفة "الإفتراضي " عن نفسه , رغم وجود العائق الدستوري , وذلك كي يبدأ داعموه بالعمل بكل جدية وواقعية على الأرض لإزالة ذلك العائق. فسياسيا, الفارق كبير بين فرص من يقول : قبلت أن أكون مرشحكم , فلنبدأ في إزالة العوائق معا , وفرص من يقول: إن نجحنا في إزالة العوائق سأكون مرشحكم. والعائق هنا مجرد نص قانوني ( دستوري) مثلوم قانونيا. فالتشريع لا يكون سليما إن وضع ليخدم حالة خاصة , بل يشترط لشرعيته أن يعالج وضعا عاما. ناهيك عن أن النصوص التشريعية لا ثقل لها في مواجهة الثقل الجماهيري لأنها يفترض أن تنتج عن الإرادة الشعبية لا أن تسقط عليها . والثورات تقف في التاريخ كصيغة ختامية لمرافعات جماهيرية طويلة أسقطت نصوصا ورؤوسا كان يظن أنها محصنة أو حتى مقدسة.
واستكمل هذه النقطة بتفصيل صغير, ولكنه في رأيي هام , وهو وجوب أن لا يمعن الدكتور البرادعي في تواضعه بما يضر بقضيته . ومن هذا ,على سبيل المثال , رده على تقدمة مذيعة على قناة دريم ( قد تكون تقدمة لتبرئة نفسها من تهمة التواطؤ على إسقاط حكم مبارك) بقولها : قد لا أعطيك صوتي إن ترشحت .. إذ رد بقوله : " أنا نفسي قد لا أعطي صوتي لنفسي .. "!! ليسمح لنا الدكتور أن نقول أن هذا تواضع في غير محله . فالناس تبحث عن زعيم وليس عن كاتب عرض حال يصوغ مطالبها, ولا حتى عن محام يحمل هذا المطلب للجهات المعنية محليا ودوليا.. فالمحامون الأفذاذ كثر في مصر .
ويلي هذا أن يتقدم الدكتور ببرنامج حكم , يصوغه بتأن وبعد بحث مستفيض مع مختلف القوى الوطنية والمختصين . ففي مراحل اجتياز العتبة ( والعقبة ) يلزم أن يعرف الناس إلى أين سيعبرون. ولا تلزم التفصيلات المرهقة, بل مجرد عناوين التغيير في خطوطه العريضة المتعلقة تحديدا بالديمقراطية والتعددية وتداول السلطة ( في شقه السياسي).. وفي شقه الإقتصادي نعتقد أن طرح الدكتور " لنوع من الإشتراكية " كان موفقا لعلاج الوضع الحالي الذي دمره نهب الأصول باسم الخصخصة وتنصل الدولة من واجباتها تجاه الشعب الذي يمول ميزانيتها . والإيجاز في البرنامج هام هنا كي يمكن اختصاره في شعار رئيسي الآن يحمل عنوان التغيير المستهدف . ولكن مع اقتراب موعد الترشيح ومع تحقق صفة المرشح رسميا للدكتور البرادعي , يلزم الإلمام بقدر كاف من الترجمة التطبيقية للبرنامج ليعين في الرد على هجوم المناوئين قبل استفسارات المؤيدين او الحائرين .. أي انه لا مناص من الغوص منذ الآن إعداد الذات لتفاصيل العمل المطلوب , خاصة ان الإلتزام بتغيير جذري يملك مقومات الدوام , مع الإلتزام بعدم تجاوز مدد الترشح الدستورية واحترام تداول السلطة, يحتم أن يستثمر حتى الزمن المتبقي للإنتخابات , كي يتسنى بدء العمل فور إعلان نتائجها .
هذه مقترحات بنيناها على رصد محاولات إصلاح عدة , ما تحقق بعضه وما أجهض كله . ولكن ميزتها أنها رصدت في العالم العربي بكل مساوىء حاله , وليس في الديمقراطيات الغربية الميسرة أمورها إلى حد أن أخطاءها باتت تنبع من ترف.. كالثراء الفاحش إذ يغري بالتبذير وصولا للإفلاس . ولكن إفلاسهم مؤقت , بعكس إفلاس قطر عربي واحد , مما ثبت أنه مدمر للأمة .
ومشكلة الدكتور البرادعي أنه لا يحمل فقط عبء قطر واحد , بل عبء أمة هذا القطر هو الأكثر محورية في تاريخها الحديث .. ومن هنا ينطبق عليه قول الشاعر الأردني ماجد المجالي :
" إذ ربما رجل من بعض أمته وربما أمة مالت على رجل " ..