الحاجة إلى قيادة فلسطينية جديدة

تم نشره الثلاثاء 03rd شباط / فبراير 2009 01:55 مساءً
مصطفى الفقي

عرفت حركات التحرر الوطني عبر التاريخ كله حالاً من التجدد الدائم تعطيها دفعة من الحيوية والقدرة على التواصل بحيث تحمل راية النضال أجيال جديدة تكمل مسيرة من سبقوها، وحركة التحرر الوطني الفلسطيني ليست استثناءً من ذلك رغم أن زعاماتها عبرت محطات معروفة كان أبرز رموزها أمين الحسيني وأحمد الشقيري وياسر عرفات، ولا شك أن ارتباط الأخير بالقضية الفلسطينية كان أكثر عمقاً وأشد تأثيراً وأطول زمناً. وعندما ينظر المرء حوله الآن يشعر بحال من الفراغ القومي والانقسام الفلسطيني الذي يكاد ينذر بالنتائج السيئة على القضية العربية والإسلامية الأولى، وليس ذلك إفراطاً في التشاؤم ولا رغبةً في التحريض على الواقع، إذ أن القضية الفلسطينية - واأسفاه - قد هوت من عليائها سياسياً ودولياً لكي تنحصر في معاناة أهل غزة و \"وكالة غوث اللاجئين\" ومعبر رفح وغيرها من المفردات والتفاصيل التي سحبت جزءاً ضخماً من رصيد تلك القضية الكبرى وتضحيات شعبها عبر السنين، ولكي أكون منصفاً وموضوعياً فإنني أضع أمام القارئ الاعتبارات التالية:

أولاً: إن القيادات الفلسطينية سواء في \"فتح\" أو في \"حماس\" أو في غيرهما من فصائل الكفاح الوطني أصبحت موصومة بالمشاركة في ضرب الوحدة الوطنية وتقزيم القضية والتراجع بأفكارها المستقلة في انتكاسة ملموسة ستنعكس آثارها على المستقبل القريب والبعيد، وإذا اجتمعت أطراف مختلفة لتفكر في مستقبل القضية فإن أول ما يتبادر إلى التفكير هو ذلك الانقسام الفلسطيني الشاذ الذي أدى إلى تداعيات خطيرة وانعكاسات سلبية على مستقبل القضية ونظرة الآخرين إليها، ونحن هنا لا نوزع الاتهامات ولا نلقي باللائمة على طرف دون آخر بل نشعر بأن الكل يتحمل جزءاً من نتائج ما حدث لأن التهاون في حق وحدة القرار الفلسطيني هو جناية بحق القضية وسقوط في شرك المخطط الإسرائيلي الذي يهدف إلى تصفيتها في النهاية.

ثانياً: نحن ندرك أن جرائم إسرائيل في غزة كانت جزءاً محسوباً من المخطط الصهيوني لتكريس الانقسام الفلسطيني وضرب وحدة ذلك الشعب الباسل من خلال مجزرة لم يعرف التاريخ مثلها، فلم يكن هدف إسرائيل هو القضاء على حركة \"حماس\"، ولكن توجيه ضربة تعجيزية لها تجعلها غير قادرة على توجيه ضربات موجعة للعدو، ولكنها تبقى أكثر قدرة على مناوءة أشقائها في رام الله حتى تظل الأوضاع على النحو الذي نراه، إذ أن الهدف الإسرائيلي كان ولا يزال هو ضرب الوحدة الوطنية الفلسطينية حيث يتطلع الاسرائيليون إلى الخلاص من ترابط الشعب الفلسطيني وتماسكه الذي يؤدي إلى وحدة نضاله وتجدد قدرته على مواصلة الكفاح من أجل إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشرقية.

ثالثاً: إن فصل الضفة عن القطاع كان هو الآخر هدفاًً إسرائيلياً متجدداً حتى يظل الشعب الفلسطيني مهيض الجناح عاجزاً عن مواصلة التقدم نحو تحقيق غاياته، كذلك فإن إسرائيل كانت ترفض دائماً التواصل الأرضي بين غزة والضفة لإحكام السيطرة على الأجزاء المختلفة من الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويجدر هنا أن نؤكد حقيقة معروفة وهي أن إسرائيل ترى في الوضع في غزة خطورةً عليها تزيد عما هو قائم في الضفة الغربية، كما أن الدعاوى الدينية لإسرائيل ليست نفسها بالنسبة الى القطاع مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الضفة، لذلك فإن الخلاص من غزة وتصدير مشاكلها الكبرى إلى بلد مجاور هو مصر أمر يمثل رغبة إسرائيلية تاريخية تتمكن بها من تصفية القضية بعد تجزئتها.

رابعاً: إننا نعتقد أن إسرائيل عدلت عن قبولها الطوعي لحل الدولتين وأصبحت تتوهم أن في مقدورها التملص من ذلك الالتزام في ظل التطورات الدولية الأخيرة والتي تصورت اسرائيل من خلالها أنها تستطيع أن تعطي أقل مما وعدت وأن تحصل على أكثر مما توقعت! ولا يخالجني شك في أن حل المشكلة الفلسطينية بقيام الدولة المستقلة تراجع نسبياً قبل مأساة غزة وبعدها إذ ساعد الانقسام الفلسطيني على دفع إسرائيل نحو التفكير في رفض التعامل المباشر في المستقبل مع الفلسطينيين وفقاً لهويتهم الواحدة ودولتهم المطلوبة.

خامساً: إن الذين يتصورون أيضاً أن إسرائيل يمكن أن تقبل بحل الدولة الديموقراطية الواحدة واهمون، فذلك أمر لن تقبله بعد أن بنت \"الجدار العازل\" وأصبحت المخاوف الإسرائيلية مسيطرة على صانع القرار من مغبة الاندماج مع العنصر الفلسطيني والذوبان بالتالي في المحيط العربي الرحب، وهو ما يعني أن جزءاً كبيراً من مخططها نجح وأن ضرب الوحدة الفلسطينية وتحويل النضال الوطني العادل إلى أحداث يومية مجتزأة أصبح يعطي الواقع على الأرض ميدانياً مبرراً لإسرائيل تواصل به السعي لتحقيق \"أجندة صهيونية\" طويلة المدى.

سادساً: إنني أزعم أن الحركة الصهيونية امتطت الدولة العبرية وأصبحت لها اليد العليا في تسيير الأمور وتحريك الأحداث، فقد عاد الإسرائيليون إلى المصادر النظرية لاستراتيجيتهم التاريخية يستمدون منها تصورات جديدة لمسار الأحداث في ضوء التطورات الأخيرة، لذلك ازدادوا عنفاً وشراسة وعدوانية، لأنهم بدأوا يشعرون أن باستطاعتهم ابتلاع الأرض وإجلاء البشر وسرقة المياه! وساعدهم على بلوغ هذا التصور ذلك التشرذم الفلسطيني والانقسام العربي والظروف الدولية المواتية من خلال السيطرة الصهيونية على كثير من مراكز صنع القرار في العالم كله بما في ذلك المنطقة العربية ذاتها، حتى أنني أجازف وأقول إنه أصبحت لدينا ما يمكن أن نطلق عليها \"الصهيونية العربية\" التي تخدم مخططات الدولة اليهودية بوعي أو بغير وعي بشكل مباشر أو غير مباشر.

سابعاً: إن أزمة النضال الفلسطيني الحالية تؤكد الافتقار إلى قيادة تاريخية قوية تتمتع بإجماع شعبي وقدرة في الوقت ذاته على قيادة الدفة وتحريك الأمور، وليس خافياً على أحد أن القيادات الفلسطينية الحالية - في مجملها - لم تعد قادرةً على الوفاء بالتزامات القضية وتضحياتها الجسام، فضلاً عن غياب الشعبية الشاملة لأي منها حتى أصبحت انعكاساً حقيقياً للحال الفلسطينية التي تكاد تطيح مكتسبات النضال الفلسطيني الطويل، وتدق مسماراً في نعش الهوية الفلسطينية ذاتها. ولقد أثبتت الظروف المحيطة بمحرقة غزة أن التطرف لدى حركة \"حماس\" يقابله ضعف لدى حركة \"فتح\"، بحيث لم يتمكن الفصيلان الكبيران من إيجاد أرضية مشتركة تقف فوقها الوطنية الفلسطينية من أجل دولة مستقلة ترضي الطموح الفلسطيني وتستحوذ على القبول العام في الشارع الفلسطيني.

ثامناً: إن المستوى الذي بلغته الأوضاع الفلسطينية أصبح يفرض قيام قيادة شرعية جديدة يتحمس لها جميع الفلسطينيين، وتنبع قراراتها من تراب الوطن، لا تنفذ أجندات خارجية أو تسقط في براثن الاستقطاب الإقليمي، فنحن نريد قيادة فلسطينية تعيد إلى القضية الفلسطينية زخمها المفقود ومكانتها الدولية السابقة بدلاً مما هي عليه الآن كقضية إنسانية تعيش على الانفعال العاطفي لا قضية سياسية تعتمد على الكبرياء الوطني.

تاسعاً: إننا لا نتحدث عن أسماء بعينها أو شخصيات بذاتها، فليست القضية هي أبو مازن أو خالد مشعل أو إسماعيل هنية ولا حتى مروان البرغوثي أو محمد دحلان، وإنما هي قضية شعب لا يمكن اختزالها في اشخاص بعينهم أو حتى في فصائل بذاتها. إن الذي يعنينا هو أن تظهر قيادة تاريخية تقود النضال الفلسطيني وتعيد إليه شعبيته وتجمع الصف من جديد حول الأهداف التاريخية والغايات الوطنية بدلاً من الصورة العاجزة التي ظهرت بها القيادات الحالية أثناء محرقة غزة الأخيرة.

عاشراً: إن الدول العربية - من دون استثناء - مطالَبة بالتوقف عن التدخل في الشأن الفلسطيني وتنصرف هذه الرسالة بالطبع أيضاً إلى إيران وتركيا لأن استقلالية القرار الفلسطيني هي الضمان الأكيد للوحدة الوطنية ومواصلة القدرة على العطاء لقضية تبنتها الدول العربية كافة رغم أن الذاكرة القومية لا تزال تتذكر أحداث جرش وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا، فلقد عانى الفلسطينيون كثيراً ودفعوا واحدةً من أغلى فواتير الدم عبر تاريخ الشعوب من أجل الحرية والوطن وحقوق الإنسان.

إنني على يقين أن فجراً جديداً سيبزغ ثم تشرق معه قيادة فلسطينية جديدة تجمع ولا تفرق، توحد ولا تقسم، تحسب تكاليف النضال وعوائد الكفاح وتنتظر ثمار النصر. إننا نعني بوضوح قيادةً حيوية ولا نقصد مرجعية مختلفة أو ممثلاً جديداً للشعب الفلسطيني المناضل، فمنظمة التحرير الفلسطينية وحدها هي ممثله الشرعي الوحيد، الذي اكتسب اعترافاً دولياً كاسحاً وشرعية قومية وعالمية على مدى العقود، وهذه بديهية لا يجب العبث بها أو الدوران حولها.

الحياة اللندنية



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات