شيوخ في الثلاثين!!

تغير متوسط عمر الانسان كما تطور منسوب ذكائه واتسعت معارفه لتشمل أعماق الارض والكواكب ونحن مصرون على أن نعيش تحت سطوة أعراف القرن التاسع عشر، انها ثقافة الجندرمة والانكشارية تلك التي تقول للانسان: أنت أنهيت ما لك وما عليك عندما تجاوزت الخمسين فعليك أن تحزم آخر الحقائب ان كان لها مكان في السفر الأخير.
لهذا نتوهم أن من لم يبن بيتاً حتى الخمسين لن يبنيه الى الأبد، ومن لم يتعلم أو يحصل على مؤهل اكاديمي حتى الستين عليه أن يتقاعد بانتظار الموت لأن الفرصة قد ذهبت ولن تعود..
يشيب شعرنا قليلاً أو بمعنى أدق يصبح موشى بخيوط الفضة فيقال لنا كفوا عن المغامرة.. أي عن الحياة برمتها، ويصبح لنا حفيد أو حفيدان فيقال لنا "حسن الختام"!
أما المثل الأخرق الذي جاء هو الآخر من زمن انكشاري فهو "بعد ما شاب ذهب الى الكتاب". وقد يشيب المرء بالوراثة وهو دون الثلاثين أو يفقد شعره وهو لم يكمل العشرين، وتلك ليست على الاطلاق علامات شيخوخة، الا بالنسبة لمن يقرأون سطوح الظواهر فلا يرون في البحر مثلاً الا زرقة سطحية أو مجرد أمواج تتعاقب لتصل الى الشاطىء بلا جدوى..
ما قرأته بالأمس ليس جملة معترضة في كتاب بقدر ما هو جملة متكررة في السياق الزمني الذي أتحدث فيه وعنه.
قبل أعوام صعد رجل تجاوز الخامسة والثمانين قمة جبل قد تكون عصية على أحفاده، وقبلها بعامين قررت ثلاث نساء فرنسيات تجاوزن الثمانين فتح صالون تجميل مخصص لنساء لا تقل أعمارهن عن الثمانين أيضاً.
وقبلها بعام هبط رجل في الثانية والثمانين بمظلة وكان أرشق من غزال.
والسيدة التي بلغت الخامسة والثمانين وهي في ذورة نشاطها الفكري والادبي وترعى مؤسسة عالمية للترجمة لم تهيىء صندوقها الذي يحتوي كفناً وحفنة من الحناء وجلست تنتظر، بقدر ما أعدت خطتها للاعوام القادمة ود. فرانز فانون الذي كان يقرأ تقارير زملائه الاطباء عن مرضه العضال، كان يضبط ايقاع قلمه وفن تلك التقارير وكأنه في سباق ماراثوني مع الموت، وانتج ادوارد سعيد أهم أطروحاته الفكرية وهو يغير دمه بسبب اللوكيميا التي عاش رغماً عنها أكثر من خمسة عشر عاماً! وحين شاهدته آخر مرة وقبيل رحيله في الجامعة الامريكية بالقاهرة كان كما قلت ذات يوم يمتطي هذه اللوكيميا الصفراء كما لو أنها فرس جامح، لكنه يعدو بها الى أقاصي عافية الروح!
ما قرأته بالامس كان عن رجل احتفل بعيد ميلاده التسعين، وأكرر "التسعين" كي لا يبدو الرقم وكأنه خطأ مطبعي، هذا الامريكي اسمه ميناشيم هنري، وكانت مناسبة الاحتفال مزدوجة فهي أولاً بسبب حصوله على شهادة الماجستير في الليبرالية من جامعة فلوريدا اتلانتك، ووصفت رئيسة هذه الجامعة ابن التسعين الشاب بأنه بحد ذاته أطروحة نادرة في البسالة والالهام والارادة، والمثير ان رجلاً بهذا العمر وهو بالتأكيد عاش الحرب العالمية الثانية وشهد ظلالاً مبكرة من الاولى، وحين يختار الليبرالية كمنحى ومنهج في التفكير لدراسته فهو يتحدى ابناء جيله الذين عاشوا أزمنة الايديولوجيا والمواقف الراديكالية.
الا يشعر العربي ان كان في الخمسين أو الستين بالخجل من نفسه وهو يقرأ حكايات من هذا الطراز الذي لا تعترف به تقاويم بلاده؟ حيث الشيخوخة تبدأ في الثلاثين والاستعداد لمغادرة العالم يبدأ بعد ذلك بعشرة أو عشرين عاماً؟
الأهم من كل هذا هو أن السيد ميناشيم انصرف الآن وبعد بلوغه التسعين لاعداد أطروحة الدكتوراة!!(الدستور)