حتى لا تلحق حاضرة الشـرق بطرابلس الغرب

لست مهتماً بالمصير الشخصي لمعمر القذافي، ولا بمصير مذيعته "الهاذية" التي أشهرت المسدس على الهواء مباشرة صارخة: "يا قاتل يا مقتول"، وهي التي بشرت أنصار العقيد، بجنود لم يروها، وبأمطار وريح صرصر تذكّر بغزوة الخندق و"هزم الأحزاب وحده"...لكن فضولاً عارماً يجتاحني، لرؤية العقيد ولو لمرة واحدة...أن أعرف ممن يحيطون به ما إذا كان الرجل قد استوعب ما يجري حوله، وأيقن أن الشعب الليبي لا يجمع على شيء أكثر من إجماعه على رفضه والتنديد به...هل أدرك أن "ملايينه الزاحفة على الجرذان" ارتدت عليه، وهي تطارده اليوم، كما طاردت الصين كونفوشيوس زمن الثورة الثقافية الماوية....هل أيقن أن تهديداته الجوفاء لأوروبا والأطلسي، ووعده ووعيده بنقل شرارة الثورة هناك، لم تبرح "القبو" الذي كان يسجل فيه أحاديثه الإذاعية والتلفزيونية...هل أدرك أن أحداً لن يستطيع أن يقاتل العالم، كل العالم، وأن ينتصر عليه، كما كان يروج كالمشعوذ المحتجب خلف أعمدة الدخان والبخور.
أريد أن أعرف ذلك...وأن أعرفه بسرعة...أريد لزملاء القذافي من القادة العرب أن يعرفوا ذلك أيضاً...أريد أن أنقل هذا الكلام للرئيس اليمني "المحروق" علي عبد الله صالح، وللرئيس السوري الذي تحدث بالأمس عن كل شيء، إلا عن "الثورة السورية"، لكأنه بلغ ذروة "حالة الإنكار" والانفصال عمّا يجري من حوله.
لست أدري في الحقيقة إن كان الرئيس السوري على علم بالطوفان الذي اجتاح طرابلس الغرب قبل أن يقرر الظهور على شاشة التلفزيون الوطني، في أول حديث مطوّل له عن الأحداث في بلاده...لكنها صدفة مشبّعة بالدلالات، أن تتزامن إذاعة المقابلة التلفزيونية النادرة، مع سقوط طرابلس الغرب في قبضة الثوار....وأجدها مناسبة لاقترح على القياد السورية "وقفة تأمل" مع صيحات الشارع السوري ونبضه ومع الصور الآتية من طرابلس...أجدها فرصة للتذكر بالحاجة إلى قراءة أكثر موضوعية لما ينتظر سوريا من تحديات وأخطار...حتى لا يأتي يومٌ، نرى فيه دمشق، درة الشرق وحاضرته، وقد لحقت بطرابلس الغرب، ونخرج ألستنا قائلين: اللهم لا شماتة، تماماً مثلما فعلنا بالأمس، ونحن "نودّع" العقيد، الفار من وجه العدالتين: الشعبية والدولية.
لم تبدُ على الأسد، أية مظاهر للقلق...هو قال بنفسه أنه ليس قلقاً، ونصح القلقين على سوريا، ونحن منهم، بالتخلي عن القلق...لم أستطع أن أستجيب لنصيحة الأسد...لم يفارقني القلق على سوريا...فإنا هنا أيضاً، لست مهتماً بالمصائر الشخصية للرئيس وشقيقه وعائلته والمقربين منه...مصير سوريا وطنا وشعبا وكيانا ودورا ومكانة، هو ما يقلقني في المقام الأول والأخير....لكنني أيقنت، أن الرئيس ذاهب إلى مواجهة مع العالم، غير آبه بانعكاساته على البلاد والعباد...بل أنه استند إلى كون سوريا تمرست في المواجهات والعقوبات والعزلة والحصار، وأنها "مكتفية ذاتياً" و"أن سوريا لن تجوع"...لكأن وظيفة القائد أن يبشر شعبه بالمزيد من الشدائد والمُلمات، بدل أن يحفر في الصخر، بحثاً عن مخارج لأزماته وحلول لاستعصاءاته.
لقد ذكرنا الأسد، بماض قريب وبعيد، واجهت فيه سوريا ما وجهت من مؤامرات وصمدت فيه وجهها، وانتصر الشعب السوري الصابر الصامد على المتآمرين على سيادته وإرادته وعروبته...لكن الأسد نسي أن الوضع مختلف هذه المرة...سوريا تواجه مشكلة مع نظامها...والشعب السوري يجد نفسه في "حرب شوارع" مع النظام، وليس مع المتآمرين القادمين من وراء البحار والمحيطات...هذه المرة لن يقبل الشعب السوري بأن يدفع ثمن "قيوده وأغلاله" وهو التوّاق للحرية والانعتاق...هذه المرة، لن تضطر الأسر السورية أن تخوض تجربة "ضنك العيش" نظير بقاء نظام لا يريده ورئيس لم ينتخبه.
كان حرياً بالأسد، أن يتقدم بخطة إنقاذ وطنية شاملة...تفتح أفقاً للشعب وحركاته، وتقطع الطريق على المؤامرة والمتآمرين...خطة تبدأ بإعادة الجيش إلى ثكناته، وتوقف المطاردات والملاحقات وعمليات التعدي البشع على "إنسانية" المواطن السوري...خطة تمر بحل الحكومة والبرلمان، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، من شخصيات نظيفة الكف، عفيفة اللسان موثوقة من الشعب، تشرف على إدارة مرحلة انتقال نحو ديمقراطية تعددية ومجتمع مدني...خطة تترك للحوار الوطني -الذي يضم الجميع ولا يستثني أحدا-ً أمر الدستور وتعديلاته، وقوانين العمل العام وتشريعاته...على أن تنجز المهام في جدول زمني محدد وقصير، فتذهب إلى سوريا انتخابات برلمانية ورئاسية تعددية، تقفل إلى الأبد، مبدأ التوريث، وتعيد الاعتبار "للشرعية" بما فيه التجسيد للخيار الحر والطوعي للشعب السوري.
كان على الأسد، وهو الذي قال إن دعوات "التنحي" لا تجدي مع رئيس غير "مِستَقتِل" على السلطة، أن يتبع القول بالفعل...ألم يقل القذافي أنه بلا وظيفة أو لقب أو منصب، وأنه خارج كل السلطات...من صدق القذافي من قبل، وكيف لنا أن نصدق الأسد من بعد، وهو الذي يظهر استمساكاً بالسلطة، قد يفضي إلى مقارفة جرائم ضد الإنسانية لا تقل فظاظة عن تلك التي قارفتها العصابة المتحكمة بليبيا...ثم إذا كان ثمن "عدم الاستقتال" على السلطة، أكثر من ألفي قتيل سوري حتى الآن، فما الذي الذي كان يتعين على الشعب السوري أن يدفعه من دم وعرق أبنائه وبناته، لو أن رئيسه كان "مستقتلاً" على السلطة؟(الدستور)