«الجريمة والعقاب»

كان الأحرى بالسلطة الفلسطينية، ومن خلفها جميع الدول العربية، أن تتجه لمحكمة العدل الدولية للطعن في «شرعية» الحصار الإسرائيلي الجائر لقطاع غزة...لكن أما وقد جاءت المبادرة من رجب طيب أردوغان، فليس أقل من أن تقف هذه الأطراف، بقوة وصلابة خلف المسعى التركي، وأن تمده بكل ما يحتاج إليه من أسباب القوة والدعم.
وكان الأحرى بالقيادة الفلسطينية، ومن بعدها، قيادات عربية على أرفع المستويات، أن تتقاطر إلى القطاع المحاصر، في مسعى يتخطى الشعارات و»اللفظيات»، إلى الخطوات العملية الملموسة، لفك الحصار السياسي والدبلوماسي المضروب حول القطاع، ولكسر «البلطجة» الإسرائيلية المنفلتة من كل عقال....وما كان ينبغي لقيادات الشعب الفلسطيني والأمة العربية، أن تترك للصحف أو وكالات الأنباء أمر وصف الزيارة المحتملة التي ينتوي أردوغان القيام بها لغزة عبر معبر رفح، بأنها الأولى من نوعها، لا لمسؤول تركي رفيع فحسب، بل ولمسؤول رفيع على الإطلاق.
لكن الحصار الذي تجرع الغزييون كأس مرارته لأكثر من سنوات خمس عجاف، كان في جزء منه على الأقل، «صناعة فلسطينية – عربية»، ساهم كثير من الناطقين بلسان الضاد، في فرضه وإحكام شروطه وقواعده...وضمان تنفيذه على الأرض وفي البحر والسماء...ألا تذكرون سنوات الذل على معبر رفح...والحرب الضروس على الأنفاق...والأسوار الفولاذية التي كان مقرراً لها أن تحجب عن أهل القطاع، حبة الدواء ولقمة العيش وقطرة الماء.
أيا يكن من أمر...فإن تركيا اليوم، تطلق «هجومها المضاد» سياسياً ودبلوماسيا وحقوقياً، ضد الغطرسة الإسرائيلية، وثمة ما يشير إلى أن أنقرة قد اعتمدت «خطة تصعيد تصاعدية»، ضد دولة الاحتلال، تبدأ بطرد السفير الإسرائيلي، ولا تنتهي بمطاردة القتلة في كافة المحافل الدولية...وعندما تتحرك تركيا على هذا الصعيد، فإن لحركتها وزنا وصدقية، لا تتوفر لدول عديدة في هذه البقعة من العالم...وقد آن أوان البحث مع تركيا والتنسيق معها، في شتى ميادين «الحراك السياسي والدبلوماسي والحقوقي» ضد الاحتلال والعنصرية والاستيطان و»العربدة».
وإذ يتزامن «الهجوم التركي المضاد» على الغطرسة الإسرائيلية، مع أول مواجهة بين إسرائيل و»مصر ما بعد مبارك» على خلفية جريمة القتل العمد لجنود وضباط مصريين، وبدم بارد، جرياً على «تقاليد العسكرية الإسرائيلية الراسخة»، فإن المرء لا يقوى على مقاومة إغراء المقارنة بين الأداءين، المصري والتركي، والفارق بينهما هنا، أكبر من أن تخطئه العين المجردة.
مصر فقدت كوكبة من جنودها وضباطها، في حادث ليس الأول من نوعه...لم تجر لهؤلاء مراسم تشييع تليق بهم وبكرامة بلدهم، وبما يكفي لتوجيه «رسالة» إلى من يهمهم الأمر...مصر اكتفت بالتحقيق الإسرائيلي في الجريمة، ولا ندري إن كانت تبلغت بنتائجه فعلياً أم لا...وهي لم تطلب جديا، إجراء تحقيق دولي نزيه ومن قبل طرف محايد، حتى أنها لم تكن حاضرة أثناء التحقيقات الإسرائيلية الشكلية، مع أن العلاقة بين البلدين تسمح بذلك...مصر «لحست» قرار استدعاء السفير قبل أن يجف حبره، وبدل أن ترسل إشارات واضحة تعكس نيتها إتخاذ إجراءات عقابية، نراها تشيد أسواراً واقية حول «السفارة في العمارة»...هنا تظهر الدبلوماسية التركية القوية ضعف نظيرتها المصرية، وتُظهّره.
بالقياس مع تجارب سابقة لتعامل الدبلوماسية المصرية مع «حوادث» مشابهة (زمن مبارك)، كان الأداء المصري هذه المرة أفضل بكثير، وقد أشدنا به في حينه، وعزونا السبب إلى «ميدان التحرير»، بل وقلنا أن «شباب الميدان» هم الضمانة لتوفير رد مصري مختلف هذه المرة...هذا لم يحدث حتى الآن، أو لم يحدث بالقوة الكافية والكفيلة بتدفيع إسرائيل الثمن المناسب عن جرائمها، ولو لمرة واحدة.
نعرف صعوبات ظرف مصر الانتقالي...ونعرف انشغالات قواها السياسية والاجتماعية في معارك بناء نظامها السياسي الجديد...كما وأننا نقرأ بدقة الفارق بين «تركيا اليوم» و»مصر اليوم»، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً...ولكن لا هذا ولا ذاك، يمنع القاهرة من اتخاذ خطوات عقابية، ومن ضمن الحدود التي يسمح بها القانون الدولي...نحن لا ندعو لحرب...ولا نطالب بقفزات في المجهول...نحن نطالب بـ»المعلوم»، والمعلوم هنا أن من حق المعتدى عليه، أن يطالب بجلاء الحقيقة ومحاسبة المعتدي وإنصاف الضحايا...والضحايا هنا ليسوا شهداء الجيش المصري فحسب، بل وسيادة مصر وكرامة شعبها.(الدستور)