الجامعة وسوريا ... «المبادرة السابقة»

تبدو المبادرة العربية التي كان مقرراً أن يحملها أمين عام جامعة الدول العربية إلى دمشق، بمثابة «صك إذعان» غير مألوف في تقاليد الجامعة وإرث العمل العربي المشترك...ولست أبالغ إن قلت، بأن الرسالة بلهجتها ومضامينها، ربما تعبر عن «أعلى» درجات تدخل «النظام العربي» في الشؤون الداخلية لدولة من الدول الأعضاء...وربما لهذا السبب بالذات، بدت زيارة العربي لسوريا، أمراً فوق طاقة النظام على الاحتمال، فجرى رفضها بداية، وتأجيلها بعد قبولها تالياً، ولا ندري ما إذا كانت ستتم أصلاً أم لا ؟!.
العرب سيبلغون الأسد ما الذي يتعين عليه فعله، وبالتفصيل الممل الذي ميّز خطاباته، ومن ضمن جدول زمني دقيق وصارم، وتحت إشراف الجامعة ورعايتها...هم طلبوا إليه أن يشرع في حوار، وحددوا له مع من سيتحاور وحول ماذا...طلبوا إلى حزبه، حزب البعث الحاكم، أن يعلن تخليه عن دوره «القائد» للدولة والمجتمع...أعلنوا اعترافاً مبكراً بالتنسيقييات والمعارضات، وألمحوا للحاجة للانفتاح على المعارضة كافة، أحزاباً وشخصيات...إلى غير ما يمكن أن يرى فيه النظام السياسي، تجاهلا مطلقاً لوجوده، وامتهاناً فجاً لكرامته وانتهاكاً صارخاً لسيادته.
والحقيقة أننا لا نبالي كثيراً بما ستكون عليه مشاعر النظام السوري...ولسنا من أنصار «السيادة الوطنية» حين يجري استحضارها لتبرير القمع والتنكيل بالشعب وقواه الحيّة...ولا شك أنه من دواعي سرورنا أن يكون لدينا نظام عربي، غيور تماماً على حياة الناس وحقوقهم وحرياتهم...يتحلى بجملة معايير «حد أدنى»، يتعين الالتزام بها من قبل الدول الأعضاء في الجامعة، تحت طائلة تعليق العضوية وتجميدها إن هي انتهكتها...نحن سعداء بهذا، وسنكون أكثر سعادة، إن نحن اطمأنينا بأن خطوات كهذه ستمهد الطريق أمام إنتقال أكثر سلاسة، لسوريا أو غيرها، من مستنقع الفساد والاستبداد إلى رحاب الحرية والكرامة والديمقراطية.
نريد للنظام العربي أن يستلهم نبض وروح «ربيع العرب»، وأن يقوم على جملة معايير وقواعد «الحد الأدنى»، فلا تقبل دولة عضواً جديداً فيه، أو تستمر عضوية أي دولة من الدول الأعضاء، ما لم تتقيد بها، تماماً مثلما هي معايير كوبنهاجن الناظمة لعضوية الاتحاد الأوروبي...فهل هذا ما يجري العمل به من قبل الجامعة...وهل هذه هي الترجمة الحرفية لـ»مبادرة الجامعة» حيال سوريا ؟!...هل يمكن النظر لهذه المبادرة بوصفها نموذجاً لما سيكون عليه موقف الجامعة العربية من أي نظام عربي، لو أنه جابه ظروفاً مماثلة وسلك طريقاً مخضباً بدماء أبنائه وبناته؟
من دون الدخول في كثير من الافتراضات والتكهنات، نقول بأننا لن نجازف بالقفز إلى استنتاجات سابقة لأوانها...ولن نحمّل «مبادرة الجامعة» أكثر مما تحتمل... ونؤكد بأن ما يحدث في سوريا اليوم من جرائم بحق الشعب والمواطنين، ليس «استثناءً سورياً»...وأن كثير من الأنظمة التي «تقشعّر» أبدانها لمشاهد القتل والدم في سوريا، لم تكن لتتوانى عن فعل ما أشد هولاً وأكثر فظاعة، لو أنها مرت في ظرف مماثل، أو بالأحرى عندما تمر بظرف مماثل.
ولا يسارونا الشك، بأن موقف الجامعة لن يكون محكوماً بذات المعايير...وأشك أن تصدر عن مكتب أمينها العام، مبادرة كتلك التي سبقته أخبارها ونصوصها إلى دمشق....فالمعايير المزدوجة، ليست خاصيّة أمريكية، ولا هي حكراً على سياستها الشرق أوسطية فحسب، بل هي صفة عامة لسياسات كثير من الدول والمجموعات الإقليمية كذلك، بدلالة تفاوت درجة اهتمام الجامعة العربية بـ»ربيع العرب»، واختلاف موقفها من ساحة إلى ساحة.
لن ندخل في تفاصيل مبادرة الأمين العام، ....فهذا شأن يخوض فيه السوريون أنفسهم، سلطة ومعارضة، لكننا نرى ان معظم بنودها «ذات صلة»...ولقد سبق وأن ذكرنا الكثير منها في سياق «تأشيرنا» على المخرج وطريق الخلاص من الأزمة السورية...لكننا نأمل أن تشكل المبادرة، سابقة في العمل العربي المشترك، وأن نرى جهداً عربياً متحمساً للثورات والانتفاضات العربية، خصوصاُ حين تنتقل شراراتها إلى الدول الأكثر احتياجاً للإصلاح والتغيير.
ولو كنت في موقع الناصح للرئيس الأسد، لكنت طلبت إليه أن يتبنى كل حرف من المبادرة، وأن يزيد عليها بفتح صفحة جديدة مع الإخوان المسلمين...لقد كتبنا في هذه الزاوية عناوين خطة الخلاص: حل الحكومة والبرلمان، وتشكيل حكومة من شخصيات نظيفة الكف واللسان والسريرة، تشرف على إدارة مرحلة انتقالية، يجري خلالها التوافق على القوانين والتشريعات والتعديلات الدستورية الأساسية، بعدها تذهب سوريا إلى انتخابات عامة، برلمانية ورئاسية، يتقرر في ضوئها شكل النظام السوري وهويته، وتتقرر بنتيجته، أجندة سوريا الوطنية للمرحلة المقبلة...و»تخيّلوا» لو أن الأسد تبنى هذه الأفكار قبل أن يجري تداولها وإقرارها في اجتماع وزراء الخارجية العرب...تخيّلوا لو أن نظاماً غير متهم «بالاستجداء» و»التهافت» على عتبات واشنطن، ينجح في التأسيس لديمقراطية جديدة حقيقية؟...أما كان ليجمع «الحُسنيين» كما لا يتوفر لكثير من نظرائه العرب...لقد فوّت الرجل على نفسه فرصة بناء زعامة عربية، وطنية وديمقراطية، وبدل ذلك سنرى اسمه مدرجاً على لوائح أوكامبو.(الدستور)