تركيا .. من البلقان إلى «البلقنة»

ليست تركيا وحدها من أخذت تحضّر نفسها لمرحلة "ما بعد الأسد" في سوريا، إيران أخذت تفعل شيئاً مشابهاً، لا بل أن حزب الله، أكبر المتضررين من سقوط النظام السوري، قد بدأ يستعرض السيناريوهات والاحتمالات المترتبة على حدوث تغيير جذري في هذه البلاد.
المسؤول التركي يحدثك بلغة اليقين عن زوال النظام، بعد كل ما أراقه من دماء، لكنه لا يحجب عنك قلقه العميق من مغبة انزلاق سوريا في مستنقع "السيناريو الليبي"، لا بل أنه يرجح أمراً كهذا، فالشعب لن يتراجع، والنظام يخوض معركته الأخيرة، وعملية التغيير الحتمية، سوف تكون مريرة ومديدة.
في إيران، لا تبدو الصورة مختلفة كثيراً، طهران فعلت كل ما بوسعها لمد النظام بنسغ الحياة والبقاء والديمومة، لم تبخل عليه بالمال والسلاح والخبرات والعتاد، حتى أنها أجبرت حليفها العراقي على تجرع كأس السُّم المرة ودفعته لتقديم المساعدات المالية والنفط الرخيص لدمشق، لكنها وهي ترى أن كل ذلك لم يجد نفعاً، وأنه لم يوقف عجلة التغيير، وجدت نفسها مضطرة للحديث عن "الإصلاح" و"اجتراح المبادرات الإسلامية" وغير ما هنالك مما يمكن أن يخرجها من "مولد الأزمة السورية" بقليل من الحمص.
تركيا يساروها قلق عميق، من تداعيات الحدث السوري على "دواخلها"، فطوائف سوريا ومذاهبها، أقلياتها وغالبيتها، لها ما يناظرها على الضفة التركية من الحدود، وأي نزاع بين مكونات الشعب السوري، قد تجد لها أصداء مقلقة بين مكونات الشعب التركي كذلك، فضلا عن هاجس "الكيانية الكردية" التي يبدو أنها في سوريا، تسير على خطى مثيلتها في العراق، والأرجح أن أكراد سوريا، سيخرجون بكيان شبه مستقل، إن خرجت الأمور في سوريا عن دائرة السيطرة والتحكم.
أما إيران، فإن لها من بواعث القلق ما يكفي لأن تخشى التغيير في سوريا، فطوال ثلاثين عاماً، كانت دمشق بوابة طهران للشرق الأوسط والبحر المتوسط والصراع العربي- الإسرائيلي، كل هذا سينتهي الآن، لا أحد في أوساط المعارضة السورية على اختلاف مشاربها، يريد للعلاقات بين سوريا وإيران أن تسلك ذات الطريق الذي سلكته في ظل حكم الأسد الأب والابن، حزب الله، حليف طهران القوي في لبنان، سيفقد "الحبل السري" الذي يربطه بمصادر الماء والغذاء والأوكسجين.
تركيا، كما يحدثك المسؤولون فيها، على علاقة وثيقة بمختلف أطياف المعارضة السورية، بمن في ذلك الإخوان المسلمون، وربما بشكل خاص الإخوان المسلمين، هي تريد أن تتعرف على النخب التي قد تحكم سوريا وإن بعد مخاض طويل وعنيف ودام، وإيران بدأت بدرجة أقل من الضجيج، نسج خيوط اتصالاتها وعلاقاتها مع المعارضة السورية، بصورة مباشرة أو عن طريق الحلفاء والأصدقاء، فهي أيضا لا تريد أن تجد نفسها "خارج المعادلة السورية"، فجأة ودون مقدمات، هي تخشى بلا شك، أن تكون رهاناتها قد انصبت جميعها على جواد خاسر.
سيناريو تقسيم سوريا، هو أكثر ما تخشاه أنقرة، وترحب به تل أبيب، وتتحسب له طهران، وأحسب أن "سيناريو مشؤوما" كهذا، هو السبب الرئيس الذي يدعو بعض المحللين والسياسيين الإسرائيليين للترحيب بـ"ربيع العرب" والحديث عن فرص كامنة في طيّاته، وثمة تمارين تُجرى على سيناريو إعادة رسم الخرائط، لا لسوريا وحدها، بل وللهلال الخصيب بمجمله، وهنا يعود الحديث الهامس عن دويلات علوية ودرزية ومسيحية وكردية، عن فسيفساء الطوائف والمذاهب المصطرعة التي تبدو معها إسرائيل، أكبر الأقليات في المنطقة.
تركيا التي وجدت نفسها في العقد الأخير من القرن الفائت في قلب نزاعات البلقان وانقساماته ودويلاته المتناسلة من رحم يوغوسلافيا السابقة، قد تجد نفسها في العقد الثاني من القرن الحالي، أمام "بلقنة" شرق المتوسط والهلال الخصيب، إن لم تحسن الدفع باتجاه توفير إدارة رشيدة لعملية التغيير في سوريا، ودائما بالتعاون مع أكثر قوى الشعب السوري إخلاصا لمستقبل سوريا ووحدتها وحرية شعبها وكرامته ومستقبله، دون ذلك، ستكون أنقرة ثاني أكبر المتضررين بعد الشعب السوري من أي "فوضى غير خلاّقة" قد تجتاح البلاد.(الدستور)