«حماس» واستحقاق سبتمبر

من حق «حماس»، وهي الفصيل الذي اكتسح آخر انتخابات حرة ونزيهة في فلسطين، أن تغضب وأن تبوح بهذا الغضب، لأنها لم تُستَشر قبل إقدام القيادة الفلسطينية على اتخاذ قرار سياسي بحجم قرار التوجه إلى الأمم المتحدة.. وما كان للرئيس عباس أن يكتفي باستشارة «أنصاف» و»أرباع» فصائل هزيلة أصلاً في رام الله، وأن يترك حماس خارج دائرة مشاوراته واستشاراته، لا سيما أن قنوات التواصل والحوار، باتت مفتوحة بينه وبين الحركة، منذ أن تم التوقيع على اتفاق المصالحة الأخير في القاهرة.
لم يفعلها الرئيس عباس، ولا ندري لماذا.. هل لأنه كان يعرف رد حماس المسبق.. هل لأنه أراد أن يبرهن لحماس بأنه صاحب القرار الأول والأخير، وأن اللجنة التنفيذية هي مطبخ القرار السياسي وليس اللجنة الفصائلية التي قاتلت حماس من أجل تكون صاحبة الكلمة الفصل في القرار الوطني الفلسطيني.. هل لأنه اعتاد، بعد سنوات خمس عجاف من الانقسام، على إسقاط حماس من حسبانه وهو يصوغ مواقفه وسياساته.. أياً كان السبب، فإن عدم التشاور كان خطأ لا يصب في مصلحة عباس ولا فتح ولا حماس، واستتباعاً، لا يصب في المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني.
ولقد كان لهذا التجاهل والإسقاط، أثره في رفع منسوب غضب الحركة، التي سخرت في البدء من الخطوة الفلسطينية و»حطّت من قدرها»، ثم عادت للتعهد بأنها لن تكون عقبة في طريقها، إلى أن بلغ السيل بحماس الزبى، وبدأت تطلق النار على الخطوة ومن اتخذها وتابعها، ولعل تصريحات أكثر رموز حماس اعتدالا، إسماعيل هنية، المنددة بالخطوة الانفرادية، وتأكيداته بأن لا تفويض لأحد للإقدام على أمر كهذا.. أقول لعل تصريحات كهذه، تظهر ضيق حماس وحنقها الشديدين على سياسة التجاهل و»الإنكار»، وليس على الخطوة بحد ذاتها، وهذا من حقها تماماً.
لكن ما هو ليس من حق حماس، أن تجعل من أمرٍ كهذا، سبباً كافياً لإطلاق النار بكثافة على الخطوة والقيادة الفلسطينيتين، وفي هذا التوقيت بالذات.. كان على حماس أن تتأمل وتتابع فصول الحملة الإسرائيلية على القرار والقيادة الفلسطينيين.. كان عليها أن تقرأ فصول الغضب الأمريكي من الرئيس عباس والاستياء من قراره بالذهاب إلى الأمم المتحدة.. كان عليها أن لا تطلق النار في الاتجاه ذاته، وضد الهدف ذاته، حتى وأن فعلت ذلك، من موقع آخر وخندق آخر.
الحملة الإسرائيلية- الأمريكية المنسقة ضد القرار الفلسطيني بالتوجه للأمم المتحدة، ليست مسرحية أبداً.. هم فعلا لا يريدون لأمر كهذا أن يحدث.. هم فعلا بذلوا كل جهد من أجل قطع الطريق على القرار الفلسطيني.. هم جادون في إطلاق التهديدات وفي تنفيذ كثير منها -ليس كلها بالطبع كما سنوضح لاحقاً- هم فعلاً جادون في ممارسة الضغط حتى ربع الساعة الأخير لمنع تقديم الطلب.
لقد كنا نخشى أن يضعف عباس ويتراجع أمام هذه الضغوط.. وكان يتعين على حماس أن تبادر لتوفير شبكة أمان مشروطة للرئيس، وأن تجعل ذلك علنياً لا في الغرف المغلقة فحسب، حرصاً على صدقية الموقف والرسالة وما ستخُطُّه صفحات التاريخ.. كان عليها أن تقول «نعم ولكن»، على أن تكون كلاهما واضحة أشد الوضوح.. حماس مع دولة على أي جزء يتم تحريره، وهي مع الدولة على حدود 67 وعاصمتها القدس، وحماس لديها تحفظات على مواقف السلطة من مسألة اللاجئين، وهي تريد استراتيجية بديلة، لا تعزيز شروط استئناف «استراتيجية المفاوضات العبثية».. كل هذا كان يمكن أن يُقال، وأن يُقال علناً.. لكن ما كان ينبغي للحركة أن تكون في موقع الضاغط على عباس في الداخل، فيما إسرائيل والولايات المتحدة تضغطان عليه من الخارج، تكتيكياً على الأقل.
لسنا بصدد مسرحية، وأدوار جرى تقاسمها بين عباس ونتنياهو وأوباما.. الخلاف قائم والخلاف جدي.. وربما ينجح الفلسطينيون في هذه المعركة، التي هي مرة أخرى، ليست «أم المعارك»، ربما ينجحون في تحقيق «هدف في المرمى الإسرائيلي»، لا ينبغي لحماس أن تحول دون ذلك، بأي شكل، عليها أن تصطف في خطوط الدفاع أو الهجوم، ومن باب أضعف الإيمان أن تتولى حراسة المرمى الفلسطيني، حماس لم تفعل ذلك.. لقد أخطأت بوصلة حماس هذه المرة.
نحن لا نشارك السلطة حديثها المبالغ به عن ضغوط ما قبل وما بعد التوجه للأمم المتحدة.. العالم، الولايات المتحدة وإسرائيل، لن يسمحوا بانهيار السلطة، لا حباً بالفلسطينيين أو كرمى لسواد عيونهم، بل حرصاً على أمن إسرائيل.. ستكون هناك ضغوط، قد تتأخر المساعدات وتتأخر الرواتب.. قد تتوفر الفرصة لليبرمان لممارسة ساديته الوقحة على الفلسطينيين وأن يوقف تحويل أموال الضرائب لخزائن السلطة وصناديقها.. ولكن أنظروا لم يقال في صحف تل أبيب العبرية، عن مخاطر تجويع الشرطة وأجهزة الأمن الفلسطينية، وانعكاس كل ذلك على «التنسيق الأمني»، بل وعلى أمن إسرائيل.. هؤلاء قد ينتقلوا من موقع «التنسيق» إلى موقع «التراخي» ثم إلى «التواطؤ» وأخيراً إلى خندق «المقاومة».. ستكون هناك ضغوط، ولكنها لن تصل للتجويل ولا إلى دفع السلطة إلى الانهيار، وإن غداً لناظره قريب.(الدستور)