كيسنجر في سنّ الـ100: مجرم حرب يستشرف سلام القرون
في 27 أيار (مايو) الجاري سوف يبلغ هنري كيسنجر سنّ الـ100 سنة، حفلت بما قد لا يكون رجل دولة أمريكي قد شهده أو شارك في صنعه أو اقترفه من سياسات وتحوّلات وجرائم حرب؛ على حدّ غير سواء، كما يشير السجلّ التاريخي، إذْ تطغى السيئات الكثيرة على المحاسن القليلة، ولا تُقارَن عواقب الخيارات الإجرامية النكراء بأيّ من نوادر المبادرات السلمية الحميدة. وقد شاءت أسبوعية الـ»إيكونوميست» البريطانية، الناطقة الأمثل بلسان الرأسمالية المعاصرة واقتصاد السوق، أن تحتفي على طريقتها بالدنوّ من الـ100 سنة لمستشار الأمن القومي/ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق؛ الأشهر، أغلب الظنّ، على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، وربما سائر عقوده.
ذلك لأنه «ما من أحد على قيد الحياة امتلك خبرة أكثر في الشؤون الدولية، أوّلاً كعالِم في دبلوماسية القرن الـ19، ثمّ بعدئذ كمستشار للأمن القومي وزير خارجية، وكمستشار ومبعوث إلى الملوك والرؤساء ورؤساء الحكومات» يقول تحرير المجلة في التمهيد للحوار الاستثنائي الذي أجرته مع كيسنجر؛ الآن تحديداً إذْ يتخوّف من مواجهة وشيكة بين الولايات المتحدة والصين، هو الذي يُنسب إليه (بهتاناً، في قسط غير قليل) فضل إطلاق ما بات يُعرف باسم «دبلوماسية كرة الطاولة» بين واشنطن وبكين، وفتح العلاقات بين البلدين خلال زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريشارد نيكسون صحبة كيسنجر إلى الصين، في حزيران (يونيو) 1971.
خلاصة أقواله، خلال 8 ساعات من الحوار مع تحرير الـ»إيكونوميست» أنّ اشتداد التنافس على علوّ المكانة التكنولوجية والاقتصادية بين الصين وأمريكا يثير المخاوف، حتى في وقت يشهد «تخبّط روسيا داخل المدار الصيني» والحرب التي تخيّم على الخاصرة الشرقية لأوروبا، والذكاء الاصطناعي يشحن التنافس الصيني ـ الأمريكي أكثر فأكثر. يذهب كيسنجر أبعد، إلى نطاق عالمي يشهد تحوّلاً متسارعاً ومتعدد الأشكال في موازين القوّة والأساس التكنولوجي للحرب، بحيث أنّ دولاً عديدة تفتقر إلى أيّ «مبدأ مستقرّ» يمكّنها من إرساء الاستقرار، وبالتالي تلجأ إلى استخدام الإجبار والعنف. «نحن في الوضع الكلاسيكي لما قبل الحرب العالمية الأولى» يتابع بنبرة أستاذ التاريخ الدبلوماسي، «حيث لا يملك كلا الطرفين هامشاً كافياً للتنازل السياسي، وحيث يمكن لأيّ اضطراب في التوازن أن يقود إلى عواقب كارثية».
كلام ينذر بالويل والثبور، غنيّ عن القول، ما خلا أنه ليس جديداً في مستوى النبوءات على الأقلّ؛ إذْ لم تنقضِ، بعدُ، سنة على أقوال مماثلة صدرت عن كيسنجر، في حوار دراماتيكي بدوره مع صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية هذه المرّة، غير المفترقة كثيراً عن خطوط تحرير الـ»إيكونوميست» في نهاية المطاف. الولايات المتحدة «على حافة حرب مع روسيا والصين حول مسائل أنشأناها نحن جزئياً، خالية من أيّ مفهوم لكيفية الإنهاء أو ما يُفترض أن تسفر عنه» استخلص كيسنجر؛ وبصدد قدرة واشنطن على «التثليث» مع الصين وروسيا، رأى التالي: «يصعب أن تقول الآن أننا سوف نقسم صفوفهم ونقلبها إلى مواجهة فيما بينهم، وكل ما تستطيع القيام به هو وقف تسريع التوترات واستنباط خيارات، ضمن هدف ما واضح ومحدد».
يُنسب إلى كيسنجر فضل إطلاق ما بات يُعرف باسم «دبلوماسية كرة الطاولة» بين واشنطن وبكين، وفتح العلاقات بين البلدين خلال زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريشارد نيكسون صحبة كيسنجر إلى الصين
طريف، إلى هذا، أنّ كيسنجر يرى «المنظومة الصينية» أقرب إلى الكونفوشية منها إلى الماركسية، الأمر الذي يدفع القادة الصينيين إلى بلوغ القوّة القصوى التي في وسع بلدهم امتلاكها، وأن يُعترف بهم كقضاة أصحاب قرار أعلى في مصالحهم. وإذْ ينفي عن زعماء الصين أية رغبة في الهيمنة العالمية، فإنّ كيسنجر يُبعدهم عن أية مقارنة (لا أحد عتب عليه في عقدها، أصلاً!) مع أدولف هتلر: في ألمانيا النازية كانت الحرب حتمية لأنّ هتلر احتاج إليها، لكنّ الصين مختلفة كما يستنتج الرجل الذي التقى بالعديد من القادة الصينيين، وعلى رأسهم ماو تسي تونغ نفسه. ومع ذلك، لا يجزم كيسنجر حول نزوع الصين إلى فرض ثقافتها على العالم، مفضّلاً إحالة السؤال إلى علاج قوامه «مزيج الدبلوماسية والقوّة».
ما هو بعيد عن الطرافة، بل أكثر تمثيلاً لنقائضها، أنّ تحرير الـ»إيكونوميست» يلحّ على الخبير المئوي أن يستشرف سلام القرون وصراعات الأمم ومنافسات القوى الكبرى، وفي الآن ذاته يتفادى طرح أيّ سؤال عن مآلات/ عواقب أفعال كيسنجر في عشرات الميادين والساحات والحروب؛ كان فيها مجرم حرب بامتياز، ومهندس انقلابات على أنظمة ديمقراطية أو توشك على الانتقال إلى أنظمة حكم منتخَبة، وناصحاً باحتضان الطغاة ومساندة الطغيان، ومستشاراً (شخصياً أو عبر شركاته ووكلائه) لأنظمة الفساد والاستبداد في طول العالم وعرضه، ومحرّضاً على استخدام القوّة المفرطة خارج أية شرعة قانونية أو إنسانية…
الأمثلة الكلاسيكية في بعض هذا «الاختصاص» لائحة طويلة عابرة للقارّات والجغرافيات والثقافات، لعلّ أبرزها النصائح والمشورات والتوصيات التالية:
ـ نصح دولة الاحتلال الإسرائيلي بسحق الانتفاضة «على نحو وحشيّ وشامل وخاطف» وهذه كلمات كيسنجر الحرفية التي سرّبها عامداً جوليوس بيرمان الرئيس الأسبق للمنظمات اليهودية الأمريكية، وتسربت معها نصيحة أخرى مفادها ضرورة إبعاد الصحافة الغربية والمراسلين الأجانب عن مناطق المواجهة مع الفلسطينيين، «مهما بلغت محاذير ذلك الإجراء»؛
ـ توبيخ فريق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، لأنّ ما تعاقدوا عليه مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في أوسلو ثمّ في البيت الأبيض، ليس سوى «إوالية» Mechanism متحرّكة ستفضي عاجلاً أم آجلاً إلى دولة فلسطينية (هذه التي يرفضها كيفما جاءت وأينما قامت، ويستوي لديه أن تتخلق من محض «إوالية» أو تنقلب الى أقلّ من بلدية)؛
ـ الموقف «التشريحي» المأثور من الاحتلال العراقي للكويت، ودعوة بوش الأب إلى تنفيذ ضربات «جراحية» تصيب العمق الحضاري والاجتماعي والاقتصادي للعراق (البلد والشعب، قبل النظام وآلته العسكرية والسياسية)؛
ـ الدعوة العلنية، المأثورة تماماً بدورها، إلى «نزع أسنان العراق دون تدمير قدرته على مقاومة أي غزو خارجي من جانب جيرانه المتلهفين على ذلك» في مقالة مدوّية بعنوان «جدول أعمال ما بعد الحرب» نشرها كيسنجر مطلع 1991؛
ـ السخرية من بعض الفتية الهواة في البيت الأبيض ممّن يخلطون «البزنس» بالأخلاق، والتجارة بحقوق الإنسان (في مثال الصين)؛ ولا يميّزون في حروب التبادل التجارية بين العصبوية الأورو ـ أمريكية وشرعة التقاسم الكوني لسوق شاسعة بقدر ماهي ضيقة…
هذه لائحة ذات نفع كبير في قراءة الخلفيات الفكرية والجيو ـ سياسية والأخلاقية لما يقوله كيسنجر اليوم عن أيّ ملفّ دولي، شرقاً وغرباً؛ ومثلها في النفع الأعمّ أية إطلالة راهنة على تلك «الوصفة» الفريدة لعلاج الكون كما فصّلها في كتابه الضخم «دبلوماسية» 1994. تلك، على الأرجح، تظلّ عصارة فكر «الحكيم الستراتيجي» الذي لا يغيب ظلّه عن ردهات البيت الأبيض أو البنتاغون أو تلة الكابيتول: مقيم ما أقامت البراغماتية والتعاقد السرّي (المفضوح للغاية، مع ذلك) بين توازنات القوّة وانعدام الحدّ الأدنى من الأخلاق، بين العنف والرطانة الليبرالية، وبين الدم والبترول.
ولعلّ الأبلغ تعبيراً عن شخصية كيسنجر ومزاجه هذا المبدأ الذي جاءت به تلك الوصفة: لا مناص من ترجيح التحالفات القائمة على المصلحة المشتركة، وغضّ النظر عن التحالفات التي تحوّل مقولات «السلام» و«الحرّية» إلى شعارات مطاطة وجوفاء. والأرجح أنّ تحرير الـ»إيكونوميست» غضّ الطرف، اليوم، عن حصيلة كبرى جلية: هذه الـ 100 سنة لم تبدّل رؤى أستاذ التاريخ، الأسوأ تمثّلاً لدروس التاريخ.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي