قبيل الجولة الثانية من الرئاسيات التركية
بعد ثلاثة أيام سيذهب الناخبون في تركيا، مرة ثانية، إلى صناديق الاقتراع ليقرروا من سيكون رئيس الجمهورية في تركيا للسنوات الخمس القادمة، بعدما تعذر حسم الأمر في الجولة الأولى التي جرت في منتصف الشهر الجاري.
كانت المفاجأة الأبرز في نتائج الجولة الأولى هي حصول المرشح الثالث سنان أوغان على نسبة من الأصوات تجاوزت الخمسة في المئة، فبات في موقع «مفتاحي» كما يقال لحسم النتيجة في الجولة الثانية. الدور المفتاحي المزعوم هذا ينطلق من عملية حسابية بسيطة مفادها أن جمع الأصوات التي حصل عليها أوغان إلى عدد أصوات أي من المرشحين الرئيسيين من شأنه أن يمنح الأخير الفوز. ولكن هل الأمر بهذه البساطة حقاً؟ وهل وجود أوغان في الانتخابات هو ما منع حسمها من الجولة الأولى؟
قبل كل شيء، كان يمكن لأردوغان أو كليتشدار أوغلو أن يحسم النتيجة لمصلحته من الجولة الأولى على رغم وجود أوغان بين المتنافسين، وذلك بتحقيق نسبة الخمسين في المئة من الأصوات زائد صوت واحد على الأقل، ولا مشكلة، في هذه الحالة من تقاسم الأصوات المتبقية بين المنافسين الآخرين. لكن الناخب كان له رأي آخر حين امتنع عن منح أحدهما تفويضه، فيضطر لخوض غمار جولة ثانية للحسم.
أما أولئك الذين صوتوا لأوغان فقد فعلوا ذلك من غير أن تكون لديهم أوهام بشأن احتمال فوزه، بل فعلوا ذلك لأنهم لا يريدون الفوز لأي من المرشحين القويين، أردوغان وكليتشدار أوغلو. وقد تحقق لهم ذلك في الجولة الأولى، ومن المحتمل أنهم لن يتجشموا عناء الذهاب إلى صناديق الاقتراع والانتظار في الطوابير ساعات طويلة ليساهموا في فوز مرشح لا يريدونه. ذلك لأنهم ليسوا منتظمين في حزب أو حركة معينة ليقتدوا بما قد يتخذه أوغان من قرار دعم أردوغان أو كليتشدار أوغلو. الواقع أن أوغان الذي أصبح نجم الأسبوعين الفاصلين بين الجولتين قد اختار دعم الأول، وطلب ممن صوتوا له التصويت للرئيس أردوغان، بعد جولتي مشاورات ومفاوضات مع كل منهما. غير أن زعيم حزب النصر أوميد أوزداغ هو صاحب الكلمة الفصل بهذا الشأن، باعتباره أبرز قادة ائتلاف «الأجداد» الذي اعتمد ترشيح أوغان في الرئاسيات. وقد وقّع أوزداغ مع كمال كليتشدار اوغلو على وثيقة تفاهمات تصدرها موضوع الالتزام بإعادة جميع اللاجئين إلى بلدانهم في غضون عام واحد كحد أقصى، ومواصلة الحرب على الإرهاب بكل مسمياته، وتشريع إقالة من تثبت علاقتهم بالإرهاب من المناصب الإدارية التي انتخبوا لها، إضافة إلى الالتزام بعدم جواز تغيير المواد الأربع الأولى من الدستور، وكذلك المادة المتعلقة بشروط منح الجنسية التركية.. وذلك مقابل دعم «تحالف الأجداد» للمرشح كلجدار أوغلو في الجولة الثانية.
بعد وثيقة التفاهمات التي وقعها كليتشدار أوغلو مع أوميد أوزداغ فقد انتهى ما كان يمثله لدى جمهور عريض من طالبي التغيير من أمل في التغيير نحو الأفضل، وتحول إلى مجرد طالب آخر للسلطة يفعل أي شيء للوصول إليها
والحال أن حزب النصر المتشدد قومياً ويتلخص برنامجه السياسي في بند وحيد هو طرد اللاجئين، هو الحزب الوحيد الذي له وزن، وإن كان صغيراً جداً، في تحالف الأجداد، في حين أن أحداً لا يعرف أسماء الأحزاب الأخرى (خمسة أحزاب) أو من يمثلونها، فهي مما يوصف بأحزاب على الورق. هذه الواقعة تشير إلى أن وزن حزب النصر أو تحالف الأجداد أو مرشحه سنان أوغان إنما يعبر عن اتساع شعبية مطلب التخلص من اللاجئين، السوريين بصورة خاصة باعتبار أنهم يشكلون القسم الأكبر منهم. ومع ذلك فهو يبقى تياراً هامشياً يتم نفخه إعلامياً من خلال الإيهام بتفوق ميل التخلص من اللاجئين على جميع الميول الأخرى لدى الناخبين، وتصوير الأمر وكأنه إذا تحقق ستحل جميع مشكلات البلاد كالأزمة الاقتصادية أو غياب العدالة أو تركيز السلطة في يد شخص واحد وغيرها من المشكلات الضاغطة على المواطنين.
الخلاصة أن الوهم المسمى بظاهرة سنان أوغان وما يمثله من تيار هامشي قد طبع المشهد السياسي في تركيا في أعقاب الجولة الأولى من الانتخابات، وقد تعزز ذلك بنتائج الانتخابات النيابية التي كرست غالبية برلمانية لمصلحة تحالف الجمهور، فبات الانتقال الذي وعدت به «الطاولة السداسية» إلى النظام البرلماني مجدداً في خبر كان، حتى لو فاز مرشحها كليتشدار أوغلو بمنصب الرئاسة.
أما بعد وثيقة التفاهمات التي وقعها كليتشدار أوغلو مع أوميد أوزداغ فقد انتهى ما كان يمثله لدى جمهور عريض من طالبي التغيير من أمل في التغيير نحو الأفضل، وتحول إلى مجرد طالب آخر للسلطة يفعل أي شيء للوصول إليها. على أي حال من المحتمل أن هذا التوقيع سيكلفه أصوات الناخبين الكرد الذين صوتوا له في الجولة الأولى، ولا يمكن لأي أصوات جديدة قد يكسبها بفضل التفاهم مع أوزداغ وتبني أجندته المعادية للاجئين والكرد، أن تعادل ما سيخسره من أصوات الكرد والأوساط الديمقراطية واليسارية والليبرالية، فضلاً عن الأصوات المحافظة التي ساهمت في ارتفاع نسبة التصويت لحزب الشعب الجمهوري بمقدار نقطتين مئويتين.
لقد أشارت نتائج الانتخابات البرلمانية والجولة الأولى من الرئاسية إلى صعود لافت للتيار القومي المتشدد الذي يتوزع على بضعة أحزاب ومرشح رئاسي، سنان أوغان، وعلى عدة تحالفات في السلطة والمعارضة. وهي ظاهرة غريبة أن ينقسم حزب فيزداد قوة التيار ككل بدلاً من أن يضعف كما هو متوقع.
بناء على مجمل هذه القراءة بات من الممكن التكهن بالفائز المحتمل في الجولة الثانية بلا مجازفة ذات شأن. وهو الرئيس أردوغان الذي يحقق مطالب التيار القومي بأكثر مما يمكن أن يحققه منافسه الذي انساق لتبني المطالب ذاتها من موقع أضعف، فخسر تميزه. كان يمكن أن يفوز في الجولة الثانية أو يخسر بشرف كما يقال، أي بفارق شعرة. أما الآن فمن المرجح أن يخسر خسارة تنهي حياته السياسية.
كاتب سوري
القدس العربي