الفهم الصحيح أساس الحلّ الصحيح

ما زال اللبس سيد الموقف, وما زالت الأفهام المتعددة والمختلفة إلى حدّ التناقض حول المحرك الحقيقي للثورة العربية غير محسومة, وما زال بعضهم ينحو منحى التبرير, والتقليل من شأن الحراك الشعبي العربي المتفاوت بين قطرٍ وقطر, وما زال منهج التفسير المادي يفرض نفسه بقوّة وما زال هو المسيطر على مؤسسات القرار.
منهج التفسير المادّي هو بالتأكيد أحد المناهج المهمّة الذي يتوارثه عدد من المفكرين والأساتذة, وله عدد كبير من التلامذة, على مستوى التنظير والممارسة والتطبيق في عالم السياسة والصراع الحضاري العالمي, قديماً وحديثاً, ولكنّه بالتأكيد ليس المنهج الوحيد الأوحد الذي يجب الاقتصار عليه.
لا أنفي الأثر المادّي من قاموس تفسير الأحداث والصراعات, ولكنّي أجد نفسي ميّالاً إلى عدم المبالغة في الاقتصار على هذا المنهج, والمبالغة في المقابل في محاولة التغاضي عن الأسباب والعوامل الأخرى, ولمزيد من العلميّة والموضوعية في البحث, أرى أن يؤخذ بالأسباب والعوامل المتعددة التي تحرك الناس والجماهير, وتدفع إلى الثورة كلها بتوازن, وينبغي كذلك أن يتمّ التفريق والموازنة بين أمّة وأمّة وبين منطقة وأخرى, من حيث الثقافات السائدة والعقائد المتأصلة, وعميقة الأثر في سلوك أمّة ما أو شعبٍ ما, إضافة إلى المخزون النفسي والاتجاهات الإنسانية والأعراف والعادات المتوارثة التي تحكم المجتمع.
لذلك فإنّ الأشواق إلى الحريّة, والنزعة نحو الاستقلال والتوق للعدالة والمساواة, والتطلع إلى الكرامة, والنفور من الاستعباد والإذلال, وكره التبعية المقيتة, هي المحرك الأقوى والأكثر أثراً في الشعوب العربية في اندفاعها للثورة على الظلم والاستبداد والقمع وسياسات الاستغفال والنظرة الدونية للشعوب.
إنّ الإنسان العربي ما زال يحمل في مكنون نفسه تقديس الحريّة والتمرد على قيود التحكم الجبري المتعسف رغم صبر الأجيال المتعاقبة سنوات وعقودا طويلة, وما زال الضمير الحقيقي لجماهير الأمّة العربية يعلي من الشأن المعنوي القيمي على الشأن المادي والحياة المادية, بكل وضوح لا تخطئه عين البصير!.
إنّ أجيال الشباب التي تهتف بالحريّة والكرامة والاستقلال تعلم يقيناً أنّ الحلّ السياسي في المقام الأول, ويعلمون علم اليقين أنّه عندما يستعيد الشعب سلطته الكاملة في اختيار الحكومات, ومراقبتها ومحاسبتها, هي الخطوة الأولى في طريق استعادة الإنسانية المسلوبة والكرامة المهدورة, وهي الطريق الحقيقي الواضح نحو الإبداع والتطوير والتحسين في كل مجالات الحياة.
إنّ الشباب المفعم بالانتماء لوطنه, الذي يقدس قيم الفروسية والنخوة والمروءة في خدمة الوطن والأمّة, يعلم علم اليقين أنّه لا سبيل لمنع الفاسدين من التسلط على مقدرات البلد والعبث بالمال العام إلاّ عبر طريقٍ واحد يتمثل في تمكين الشعب من ممارسة السلطة الفاعلة في المحاسبة والمحاكمة الخالية من المحاباة والشللية والمحسوبية والرشوة.
إنّ الشباب الممتلئ حماسة لخدمة وطنه وأمّته يعلم يقيناً أنّه لا طريق لمنافسة الأمم الأخرى, ومقارعة الخصوم, والتغلب على العدوّ, إلاّ عبر ديمقراطية حقيقية, تأتي بالأكفاء الأمناء الأقوياء الذين يحوزون ثقة الجماهير ويحظون بتزكيتها.
إنّ أي محاولة لشراء ذمم النّاس بالمال, أو المناصب, أو تحسين الأوضاع المعيشيّة, أو زيادة الرواتب, أو توزيع العطايا ورش الصرر والمغلفات, طريقة خاطئة بائسة, لن تخمد ثورة الوعي والحريّة, ولن تكون بديلاً للإصلاح السياسي الحقيقي الفعلي الجوهري, الذي لا يمكن التحايل عليه.
هذه الأساليب وهذه الوسائل, ربما تؤخر وقت الإصلاح, وتطيل أمد الحراك الجماهيري, لكنها لن تمنع الثورة وكلّما طال الوقت, أسهم في زيادة مخزون الثورة وحدّة الانفجار.(العرب اليوم)