أعطي صوتي لماركو
تم نشره الأحد 09 تشرين الأوّل / أكتوبر 2011 02:30 صباحاً

فهمي هويدي
تقول النكتة إن أسعار علف البهائم تضاعفت، فثارت الحمير وخرجت في تظاهرة حاشدة توجهت إلى مقر الرجل الأول في البلد، وظلت تنهق وتضرب الأرض معبرة عن احتجاجها، فتحدث إليهم رئيس الديوان قائلا إن هذا الضجيج لن يحل المشكلة، ومن الأفضل أن يختاروا من بينهم وفدا يمثلهم لكي يعرض الأمر على صاحب الأمر، ففعلوها ودخل الوفد لكي يعرض شكاية الحمير، ومرت ساعة واثنتان، ولم يعد الوفد من مهمته. فقلقت الحمير وتوجست شرا، وعادت إلى النهيق وضرب الأرض بالحوافر، لكنهم وجدوا أن أعضاء الوفد أطلوا عليهم من شرفة المبنى، راجين منهم العودة إلى الهدوء، وأبلغوهم بأنهم اكتفشوا أن مهمتهم صعبة للغاية، إذ طال الوقت معهم، لأنهم يحاولون منذ دخلوا على الرجل إفهامه حقيقة مشكلتهم إلا أنه لم يفهم.
النكتة التي تناقلتها الألسن قبل عدة سنوات عممت على الجميع في حينها رسالة حاكمت صاحب الأمر، وسخرت منه على الطريقة المصرية، التي ظلت النكتة فيها أحد أسلحة المقاومة، وضمت الضحك إلى قائمة أسلحة الدمار السياسي الشامل، لكن يبدو أن المصريين لم ينفردوا بهذا السلوك، لأن البلغار فعلوها بصورة أخرى أشد وأقوى، ذلك أنهم رشحوا حمارا لرئاسة بلدية إحدى المدن، إذ لم يتحدثوا عن رئيس بعقل حمار، ولكنهم تخيروا حمارا حقيقيا، ووجدوا أنه الأنسب لكي يشغل منصب الرئيس، أما كيف حدث ذلك، فإليك الحكاية.
في الخبر الذي نشرته صحيفة «الشروق» يوم 3 أكتوبر أن لجنة انتخابات البلديات في بلغاريا أعلنت عن قبولها ترشيح الحمار «ماركو» لمنصب عمدة إحدى المدن المطلة على البحر الأسود، وكان ماركو هذا قد سبق له الترشح لذات المنصب من قبل حزب «مجتمع بلغاريا» لكي ينافس مرشحي الأحزاب الأخرى، ووافقت عليه لجنة الأحزاب، لكنه لم يفز.
الحزب أعد للحمار برنامجا انتخابيا يلبى مطالب سكان المدينة، وقدمه باعتباره شخصية متميزة وموثوق فيها، فإلى جانب قوته وثباته فإنه يعمل بجد وبغير ملل طول الوقت، ثم إنه لا يكذب ولا يسرق ولا تحوم حوله أي شبهة فساد.
وفي مؤتمر صحفي، عقده ممثلو الحزب لتدشين حمله ماركو، قال المتحدثون إن مناقبه الكثيرة يشوبها عيب واحد، هو أنه مطية لسيدة تملكه، ولكن ذلك لا يعيب الحمار كثيرا، لأن عمدة المدينة الحالي السيد كيريل يوردانوف بدوره خادم مطيع لرئيس وزراء بلغاريا بويكو يوريسوف. ولئن تعادل الاثنان من هذه الزاوية، إلا أن مناقب الحمار ماركو التي تركز حول استقامته ونظافة يده (رجله إن شئت الدقة) ترجح كفته وتعزز موقعه باعتباره المرشح الأصلح.
صحيح أن النكتة المصرية أكثر جرأة، لأنها رفعت السقف عاليا وبطريقة ذكية ولماحة طالت أعلى رأس في البلد، إلا أن النكتة البلغارية أقوى، فالأولى سخرت من ولى الأمر وجرحت ذكاءه ومقدرته على الفهم. أما الثانية فإنها بمثابة بيان مباشر اغتال عمدة المدينة الذي انتهت ولايته، واتهمه في ذمته وسلوكه الوظيفي، بل وطعنت في نزاهة بقية المرشحين للمنصب.
بالتالي، فإن المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه ترشيح ماركو لم يكن هدفه تسويقه وحشد الأنصار له، بقدر ما أنه استهدف فضح العمدة الحالي وقطع الطريق على احتمالات إعادة انتخابه، كما حاكمت بقية المرشحين، حتى أزعم أن النكتة المصرية كانت نوعا من التشهير والحط من قدر ولى الأمر، أما النكتة البلغارية أقرب إلى عريضة الاتهام الموجهة لكل المرشحين للمنصب، الذين اعتبر حزب مجتمع بلغاريا انه ليس بينهم من توفرت فيه النزاهة والقدرة التي تؤهله لرئاسة البلدية. ولذلك اعتبر أن الحمار هو الحل!
أعجبتني الفكرة، ليس فقط لأنها بهذا الأسلوب حاكمت المرشحين للمنصب العام وأدانتهم، ولكن أيضا لأنها فتحت أعيننا على بدائل من عالم الحيوان يمكن أن تفي بالغرض وتملأ الفراغ إذا لزم الأمر. لا تفوتك هنا ملاحظة أن اليأس من توفر البدائل المناسبة للوظائف العامة يحدث عادة في المجتمعات التي يشيع فيها فساد النخبة جراء خضوعها لأنظمة استبدادية تستخرج من الناس أسوأ ما فيهم، الأمر الذي يعنى أن ثمة تشابها بين المرحلة الشيوعية التي عاشت بلغاريا في ظلها وبين مصر خصوصا في عهد الرئيس السابق.
ليس جديدا هذا التوظيف للحيوانات في التعبير عن الرؤية السياسية، فقد لجأ إليه عبدالله بن المقفع في كتابه الشهير كليلة ودمنة، واستخدمه الكاتب الإنجليزي جورج أورويل في كتابه «مزرعة الحيوانات» وخوان رامون خيمنيث الشاعر الإسباني الذي حاز جائزة نوبل في كتابة «أنا وحماري».
وبوسعنا أن نعتبر الدكتور محمد المخزنجي على رأس رواد هذا الفن في زماننا، ليس فقط في كتابه «حيوانات أيامنا»، ولكن أيضا لأن أغلب كتاباته عن الشأن العام يدخل إليها من عالم الحيوان.
لا أعرف ما هي المعاني التي تتداعى إلى ذهنك حين تتدبر القصة البلغارية، خصوصا في ظل الحيرة التي تنتاب كثيرين في مصر هذه الأيام، لكني أرجوك ألا تشطح بعيدا في الخيال، علما بأنني حسمت أمري في هذا الصدد، وقررت أن أعطي صوتي «لماركو»!(السبيل)