«الأمعاء الخاوية» : ما هكذا تدار معركة الأسرى!

على امتداد السنوات الأربعين الفائتة، اضطلعت الحركة الوطنية الأسيرة، بدور ريادي وقائد في مسيرة النضال الفلسطيني...وحظي الأسرى والمعتقلون، بمكانة راسخة في عقول وقلوب وضمائر الشعب الفلسطيني في الوطن والمهاجر والمنافي...وتبوأ كثيرون منهم، مواقع الصدارة والقيادة في مسيرة الحرية والاستقلال...وتلقوا الدعم والتأييد من كل أسرة فلسطينية، في الداخل على أقل تقدير، حيث لا تكاد توجد أسرة فلسطينية واحدة، لم يتعرض أحد أفرادها أو أكثر، لتجرية الاعتقال، في سجون النازية الجديدة.
اليوم، يخوض أسرى الشعب الفلسطيني وأسيراته، معتقلوه ومعتقلاته، معركة جديدة في سبيل حريتهم وكرامتهم...هي ذاتها معركة الشعب كله، من أجل العودة والحرية والاستقلال....وتدخل «عملية الأمعاء الخاوية» واحدة من أكثر صفحات المقاومة، مجداً...وتقاوم أكفّ هؤلاء العارية مخارز الاحتلال وحرابه...وبجسارة ودأب، قل نظيرهما في تجارب حركات التحرر الوطني العالمية.
لكن صدى هذه المعركة خارج الأقبية والزنازين، ما زال ضعيفاً وخافتاً...حتى على الساحة الفلسطينية، لم نلحظ حراكات ونشاطات، تليق بهذه المعركة وترقى إلى مستوياتها...مع أن قضية الأسرى، من بين جميع القضايا المدرجة على جدول أعمال الشعب الفلسطيني، كانت على الدوام، عاملَ توحيد وتجميع...مع إنها كانت ولا زالت، القضية الأكثر إثارة لمشاعر السخط والغضب، والأكثر قدرة على تحريك الشارع الفلسطيني، واستخراج، أقوى وأفضل ما فيه، من طاقات المقاومة والتحدي.
منذ أيام، ونحن نتابع بقلق تدهور الحالة الصحية للمناضل الفلسطيني الكبير أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي تقول التقارير إنه لا يخرج من غيبوبة حتى يدخل في أخرى أشد صعوبة وحرجاً، وإنه بالكاد يستطيع الوقوف على قدميه...سعادات ليس أمينا عاما لثاني أكبر فصيل فلسطيني في منظمة التحرير فحسب، بل هو الرجل الذي يختصر قصة الألم والمقاومة الفلسطينيين، قصة كل فلسطيني تعرض للاستئصال والتشريد والتهميش والقمع والإهانة...قصة كل فلسطيني قرر الاستمساك بهويته ووطنه وحقوقه وكرامته الفردية والجمعية...أحمد سعدات الرجل الذي لم يكن ينهي حكماً بالسجن، حتى يدخل في توقيف إداري تعسفي، لم يخرج من سجن إسرائيلي حتى يدخل سجناً فلسطينياً (للأسف)...أحمد سعدات الذي بدأ تاريخ اعتقالاته لحظة أن «وضع الاحتلال أوزاره» في شباط 1969، وظلت فصول هذه الملحمة البطولية متصلة، حتى يومنا هذا، وربما حتى غدنا الذي لم نراه بعد.
لا يجوز أن تقابل «معركة الأمعاء الخاوية» بما يشبه «مؤامرة الصمت»...الصمت في هذه تواطؤ...العجز هنا تواطؤ...إن لم تكن قضية الأسرى والمعتقلين، سبباً كافياً لتحريك الشوارع الفلسطينية المنقسمة على ذاتها، في الضفة والقطاع والشتات، فأي قضية ستحرك هؤلاء...إن لم تكن هذه المسألة، العادلة حقاً، والمشروعة حقاً، سبباً كافياً لترجمة شعار «المقاومة الشعبية السلمية»، فمتى يمكن ترجمة هذا الشعار، ومن أي نقطة أخرى سنبدأ؟
الآن..الآن، وليس غداً...يتعين على السلطة والمقاومة والفصائل، فتح وحماس ومنظمة التحرير، المجتمع المدني والأهلي الفلسطيني، أسر المعتقلين وضحايا سجون الاحتلال النازي...يتعين على جميع هؤلاء، الخروج في تظاهرات سلمية، تسد عين الشمس...ما عادت صفحات «الفيسبوك» تكفي، ولا المؤتمرات الصحفية والعرائض...ما عادات المظاهرات المعلبة في دوار المنارة أو الساعة، أو خيم التضامن في غزة، تكفي لإنجاز المهمة...لسنا بحاجة لحفنة من الخطابات الإنشائية الركيكة المكرورة...نحن بحاجة لحراك شعبي أصيل وعميق وممتد، جماهيري بحق...نحن بحاجة لحراك يستلهم ربيع العرب بساحاته وميادينه وتظاهراته المليونية.
إن لم تبدأ كرة الثلج، من فلسطين، فلن تبدأ من أي مكان آخر...الشوارع العربية مشغولة، بل وغارقة في ملاحقة فصول المواجهة بين الثورة والثورة المضادة...وحدها الشوارع الفلسطينية، تقف متفرجة ومكتوفة اليدين والرجلين...وهذا وضع طال انتظاره، والصمت عليه أو استمراء استمراره لدوفع واسباب أخرى، هنا في الضفة أو هناك في غزة، أمرٌ بات يرقى إلى مستوى «الجريمة».
يجب أن تجعل فصائل العمل الوطني والإسلامي، من معركة الأمعاء الخاوية، بداية الانتفاضة الشعبية السلمية الثالثة...بداية انتقال «عدوى» ربيع العرب إلى فلسطين...الكل ينتظر هذا الربيع ويبشر به...الكل يتحدث عن مقاومة، سقفها الأدنى المتوافق عليه، شعبية وسلمية...ولكن الكل يمعن في التأجيل والإرجاء...الجميع صاروا «مرجئة»....ودائماً بهدف الحفاظ على «استقرار» السلطة...لا السلطة في رام الله وحدها، بل وفي غزة كذلك...الجميع يتصرف من موقع «الحاكم العربي» الذي يكره حركة الشارع، حتى وهي تتضامن معه، خشية أن تمتلك هذه الحركة استقلاليتها وديمومتها ذات يوم، وتتحول إلى لاعب رئيس، لا أحد له «دالّة» عليه.
الأسرى والأسيرات، المعتقلون والمعتقلات، يستحقون أكثر من ذلك...لأنهم كانوا طليعة النضال الفلسطيني ورأس حربته...لأنهم احتلوا المرتبة الثانية في لائحة الشرف الفلسطينية، بعد الشهداء الأماجد والشهيدات الماجدات...كل التحية لأسرى فلسطين من نساء ورجال وشيوخ وأطفال...المجد للأسرى العرب في السجون الإسرائيلية، الذين جسدوا بالفعل لا بالقول، مقولة اننا أمة واحدة، وأن فلسطين، كانت وما زالت، في موقع المركز والقلب من اهتماماتها وأولوياتها.(الدستور)