غليون .. المعرفة والسياسة

عندما اصدر برهان غليون كتابه (ثقافة العولمة وعولمة الثقافة) عام 1999 كان الكتاب محطة مهمة في فرز اليساريين بين تيار اشتراكي يدعو الى تجديد الاشتراكية من داخل مهمات حركة التحرر الوطني والقومي ومقاربة العولمة انطلاقا من ذلك.. مقابل تيار راح يدعو الى تجديد (ديمقراطي) من داخل العولمة..

وحيث قارب التيار الاول العولمة بوصفها ظاهرة رأسمالية عالمية متنوعة في حقول الاتصالات والمعلومات وتجديد الهيمنة, وكان ادوارد سعيد من رواد هذا التيار... فقد قاربها التيار الاخر على نحو غير جدلي كما لو انها مصفوفات متوازية تسمح باختيارات فردية مستقلة وتعكس تناوبا ثقافيا واقتصاديا بين السلب والايجاب, وكان غليون من هذا التيار الذي ضم العديد من المثقفين السوريين المنخرطين اليوم فيما يعرف بالمجلس الوطني (رضوان زياده والحديدي وياسين الحاج وعبدالباسط سيدا والجباعي وعبدالرزاق عيد) .. وقاموا جميعا بتأويل كتابات المفكر الكبير الراحل الياس مرقص لتلائم اطروحاتهم فانحكموا لثقافة الثأر والكراهية اكثر ما انحكموا للثقافة الجدلية والصراع على قاعدة الاختلاف وجعلوا من المحاكمات الايديولوجية الصورية بديلا للمراجعات المعرفية كما جعلوا من (الوحدة) محور قانون الوحدة والصراع بعكس الجدل الاشتراكي الذي يعترف بالقانون السابق ويحيله الى الصراع في النهاية.

وبدلا من تجاوز الدوغما الماركسية التقليدية باستخدام ادوات غرامشي مثلا للكفاح الواقعي داخل الحقبة الرأسمالية ومن اجل مواجهتها, استعاروا ادوات ليبرالية ووضعية...

ولو اخذنا كتاب غليون المذكور لوجدنا انفسنا كما لاحظت دراسة مبكرة للدكتور ابراهيم علوش امام نموذج للتيار الثاني (التكيف وليس الصراع داخل العولمة).

1- تحديد علماوي - اقتصادي (ليس علميا) لمفهوم العولمة باعتبارها تدفقا للقيم والمنتجات يلغي المعادلة السابقة (مركز ومحيط) ويلغي هوية الصراع الطبقي والوطني العمودي لصالح تشبيكات متقاطعة.

يقول غليون »ان مقاومة الهيمنة التي تحملها العولمة لا تتحقق من خلال الرفض الايديولوجي ولكن من خلال بناء الشروط التي تسمح بالتحكم بآلياتها ووضع اليد على جزء من رأسمالها المادي«.

ويقول في معرض آخر »تفتح العولمة دون شك فرصا هائلة لتحرر الانسانية من تفاعل وخلق سوق عالمية واحدة تساهم في توسيع التجارة والفوائض المالية التي لو استغلت لاهداف انسانية لغيرت وجه المعمورة«. وهنا وجه التضليل الكبير حيث يعرف غليون الطبيعة المتوحشة للرأسمالية.

2- وقريبا من فلسفة الرأسمالية الامريكية, البراجماتية الوضعية, يقول »فليس من الممكن ان تحرم العولمة اي فرد من حقه في ان يحلم انه هو المستفيد من فرص العولمة«.

3- وبعكس ادوارد سعيد ومهدي عامل وبتأويل بورديو على نحو معاكس تماما يقول عن العولمة والثقافة »ان خضوع الثقافة لقوانين السوق ليس ظاهرة سلبية بالضرورة« ويرى ان العولمة تذهب في اتجاه خلق نخبة ثقافية عالمية تقوم على خلق رأسمال ثقافي رمزي مستقل« ولا يمانع من ان يسفر ذلك عن تراجع الثقافات الوطنية وابعادها عن حقول السلطة.

ولا يخفي التضليل هنا ايضا فرأس المال الثقافي الرمزي ليس مستقلا بل اداة للهيمنة كما يلاحظ غرامشي وبورديو نفسه.(العرب اليوم)