حيرة جديدة فوق حيرتنا القديمة

حار المراقبون في قراءة ما رشح من معلومات، لقاء الرئيس الأسد وفد الجامعة العربية برئاسة رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، «اجتماع طويل وإيجابي وودي»، بحث في العمق في مختلف أوجه الأزمة، اتفقنا حول عناوين وما زلنا نبحث في عناوين أخرى، سوريا احتوت «المبادرة العربية»، اتفاق على تشخيص الأزمة وبحث لاحق في سبل الخروج منها، نجاح في استعادة مناخات الثقة ورسم الابتسامات على الوجوه المكفهرة، إلى آخر ما في الجعبة من عناوين ومانشيتات، لا تخلو من إشارات إيجابية، بيد أنها رغم ذلك، تبقي الباب مفتوحاً أمام نذر الانهيار وإرهاصات المواجهة.
النظام في دمشق، ليس راضيا عن الجامعة العربية، بل أن المتحدثين باسمه، خصوصا من اللبنانيين، لم يتوقفوا لحظة عن «شيطنة» هذه المؤسسة وهجاء النظام العربي، ووصفه بـ»رأس جسر التدخل الدولي»، المعارضة السورية ليست راضية عن أداء الجامعة العربية كذلك، وثمة اتهامات شديدة اللهجة للنظام العربي المتخاذل والمتواطئ والعاجز والمشلول، النظام يريد الجامعة سدّاً في وجه التدخلات الدولية، والمعارضة تريد للجامعة أن تكون جسرا «لحماية المدنيين» والتدخل الدولي إن لزم الأمر، وبين هذا وذاك، تبدو الجامعة «في حيص وبيص».
المهلة ليست طويلة هذه المرة، الاجتماع المقبل سيُعقد الأحد المقبل، أربعة أيام كفيلة بإزهاق حيوات ما لا يقل عن مائة سوري، سينضافون إلى ما يقرب من المائتين، سقطوا منذ أن اعتمدت الجامعة «تكتيك المهل الزمنية»، وثمة في الأفق ما يشي بأننا أمام محاولة الفرصة الأخيرة: إما الحل التوافقي او الانزلاق إلى أسوأ السيناريوهات والكوابيس، ولحظة الحسم تقترب بسرعة شديدة، فيما تركيا وفرنسا تبدوان كمن «نفض» يديه من النظام، وبدأتا في تشييعه إلى مثواه الأخير.
دون غطاء عربي، يمهد لغطاء دولي، لن تقوى المعارضة على حسم معركة إسقاط النظام، حتى إشعار آخر على أقل تقدير، وبكلفة باهظة بلا ريب، لهذا تبدو المعارضة بحاجة ماسّة للجامعة العربية لتوفير هذا الغطاء، ومن دون غطاء عربي، سيجد النظام ظهره مكشوفاً أمام سهام التدخل الدولي، ولهذا تبدو الجامعة العربية بالنسبة إليه، مأكولا مذموما، وفي مطلق الحالات، فإن المعركة في سوريا وعليها، تكاد تنعقد حول سؤال: هل سيكون هناك تدخل دولي في الأزمة السورية أم لا، كيف ومتى وأي مستوى وعن أي طريق؟ يترافق ذلك مع مؤشرين اثنين، الأول، تأكيد الإدارة الأمريكية المتكرر، بأن سفيرها في دمشق سيعاود ممارسة نشاطه كالمعتاد قبل الشهر المقبل، لقد اشترى «ديك الأعياد» لطاقم السفارة، وهو سيعود إلى دمشق في غضون شهر واحد، وهذا ينهض كشاهد على أن واشنطن لم تحسم خياراتها النهائية بعد، والثاني، ويمكن، وصفه بـ»دبلوماسية الجنازات»، فزيارة فاروق الشرع للرياض للمشاركة في تشييع ولي العهد السعودي الراحل، هو أمر فيه من «السياسة» بقدر ما فيه من «الإنسانيات» و»المجاملات».
من جهتنا، لا ندري كيف يمكن الوصول إلى حلٍ وسط بين مطالب المعارضة الداخلية والخارجية من جهة، وقدرة النظام على الاستجابة لهذه المطالب من جهة ثانية، فالفجوة كبيرة، وهي ممتلئة بشلال من الدماء، وهي تزداد خطورة كالفجوة بين شفرتي المقص، كلما زادت تباعداً، زادت خطورة.
حتى الآن، لا يبدو أن النظام في دمشق، أعلن أو هو قريب من الإعلان عن قبول رسمي غير متردد بالمبادرة العربية، النظام لم يظهر قدرة أو مرونة على التعامل السياسي مع المبادرات المقترحة لحل الأزمة، ومن بينها مبادرة الجامعة العربية ذاتها، بل أنه لم يظهر أي ميل للتعامل مع الأزمة سياسياً، فلا خيارات لديه، خارج إطار الحل العسكري والأمني، هذا ما يستشف من كل المؤشرات والمواقف والتصريحات طوال الأشهر الثمانية الماضية، حتى الآن، لا يبدو أن النظام لديه أدوات ووسائل للتعامل مع غضب الشارع واحتجاجه، خارج القاموس الرسمي الليبي، وخطاب «زنقة زنقة دار دار»، وليس ثمة ما يشي بأنه سيواجه مصيراً مغايراً.
لكن دعونا لا نستبق الأحداث، فإن غدا لناظره قريب، وسنرى ما إذا كانت وعود النظام سوف تحترم، بل سنرى إن كان النظام قد وعد بشيء جوهري حتى الآن، سنرى إن كان قادراً على شق طريق سياسي، إلى جانب الطريق الأمني/ العسكري، أو بدلاً عنها.
أما المعارضة الموزّعة على تيارات مختلفة، فتتنازعها جملة من المواقف والمدارس، هناك من يشترط للحوار سحب الجيش ووقف العنف والقبول بالمبادرة العربية مسبقاً، وهناك من لا يرى غير شعار «إسقاط النظام»، وهناك من يريد حواراً تحت عنوانٍ واحدٍ فقط: نقل السلطة من نظام الأسد إلى نظام «ما بعد الأسد»، فضلا عن معارضات الداخل بألوانها وأطيافها المختلفة.
لسنا نعرف كيف سينتهي هذا الاستعصاء، لقد كان بمقدور النظام أن يريح ويستريح، لقد كان على الرئيس الأسد أن يبني لنفسه مجداً تاريخياً، لقد كان بمقدوره أن يضرب بسيف الديمقراطية البتّار بعد أن عزّت السيوف ولم تفارق أغمادها، لكنه لم يفعل، وبتنا ميّالين للأخذ بنظرية «لو بدها تشتي غيّمت»، لا غيوم في سماء دمشق حتى الآن، لسان حال نظامها يقول: «إذا مُتّ ظمآن فلا نزل القطر».(الدستور)