فتش عن الجن

تم نشره الإثنين 31st تشرين الأوّل / أكتوبر 2011 12:29 صباحاً
فتش عن الجن
فهمي هويدي


تقول القصة التي يتداولها المثقفون السعوديون إن قاضيا في المدينة المنورة وقع على صكوك بيع مزورة لأراض لا يملكها البائع. وحين فوجئ صاحبها بما حدث، فإنه أبلغ الجهات المعنية، وأثبت لها أنه مالكها الحقيقي. وأيدت التحريات صحة كلامه حيث اكتشفت أن القاضي كان يعلم بتزوير عقد البيع، وأنه تلقى رشوة لتسجيله. قال البعض إنها نحو 4 ملايين ريال. وقال آخرون إنها 40 مليونا. وحين توافرت الأدلة والقرائن التي أكدت أن الرجل حصل بالفعل على الرشوة، تمت مواجهته بالتهمة. وبعدما وجد صاحبنا أن الجريمة ثابتة بحقه لم يجد مفرا من الاعتراف بأنه قبض المبلغ حقا، لكنه قال للمحققين إنه لا ذنب له فيما حدث لأنه مسلوب الإرادة. سئل: كيف؟ فرد قائلا: إن جنيا يسيطر عليه ويتحكم في سلوكه، وهذا الجني هو الذي تقاضى المبلغ وصرفه بينما ظل هو مكبلا لا حول له ولا قوة!

أسقط في يد المحققين، الذين نُصحوا بأن يستعينوا بأحد الشيوخ المختصين بمثل هذه الأمور ويعرفون كيف يتعاملون مع الجن. وحين تم انتداب الشخص المناسب للمهمة فإنه اختلى بالقاضي وأجرى اتصالاته مع عالم الجن، وتوصل إلى نتيجة خلاصتها أن القاضي تحت سيطرة أحد الجان فعلا، وبالتالي فإنه لا يعد مسئولا عن أفعاله التي منها مسألة الرشوة موضوع الاتهام. وكانت تلك الشهادة كفيلة بإيقاف البحث في القضية، حتى إشعار آخر.

لا أعرف ماذا تم بعد ذلك، ولكن ما همني في الموضوع هو الحجة التي استخدمت والتي لم يستطع المحققون أن يجدوا لها ردا، فعلقوا مهمتهم، ولا أخفي أنني حين سمعت بالقصة تذكرت تساؤل الشيخ محمد الغزالي ذات مرة، الذي قال فيه: لماذا وحدنا الذين يتقصدنا الجن ويركبوننا؟ ولماذا لم نسمع عن شيء من ذلك في الدول الغربية مثلا، أم أن الجان تحمل جنسيتنا ولا يطيب لها العيش إلا في بلادنا العربية والإسلامية؟ كان الشيخ رحمه الله يطرح هذه الأسئلة ثم يقول ضاحكا إن البني آدم هو الجني الأكبر الذي ينبغي الحذر والخوف منه.

لست ممن يجيدون الحديث في عالم الغيب. وإن كنت أؤمن وأسلم بكل ما أورده القرآن خاصا به، لكني اعتبر أن لدينا في عالم الإنس الكثير الذي يشغلنا عن عالم الجن. ثم إننا إذا كنا نعاني الأمرين من شياطين الإنس. فما بالكم لو فتحنا ملف عالم الجن. لكنني تذكرت هذه الأيام قصة القاضي الذي ادعى أنه مسلوب الإرادة وأن الجن الذي يركبه هو الذي تقاضى الرشوة (لم نعرف أين أودع المبلغ وكيف أنفقه الجني!!).

ما جعلني استحضر القصة هو تعدد الوقائع والحوادث التي نصادفها ونعجز عن أن نحدد الفاعلين فيها. بدءا بإطلاق الرصاص على المتظاهرين في ميدان التحرير من فوق أسطح البنايات عند انطلاق الثورة في شهر يناير الماضي وانتهاء بإطلاق الرصاص على المتظاهرين في شهر أكتوبر الحالي. سيقول قائل: إن لدينا من أجهزة الاستقصاء والتنصت والتحري ومن أساليب الاستنطاق وحيل الإيقاع والاصطياد، ما يسمح لنا بفك أي لغز وتبديد أي غموض أو لبس. وربما قال آخر إن كفاءة الأجهزة الأمنية لا يشق لها غبار، وهي التي قيل يوما ما إنها مكنت الحكومة من أن ترصد دبيب النمل في البلد وأن تحصي أوراق الشجر المتساقط في الخريف. وربما أراد هؤلاء أن يقولوا لنا في نهاية المطاف إن الشرطة في مصر بعد الثورة خرجت ولم تعد، رغم النداءات والتوسلات التي يطلقها الناس كل يوم لاستدعائها. لكني لم أقتنع بهذه الحجج لأن الشرطة إذا كانت غائبة فإن الأجهزة الأمنية لا زالت حاضرة، سواء تلك التابعة للداخلية أو لغيرها من مؤسسات الدولة. فضلا عن أن أجهزة التحقيق والنيابة مازالت عاملة ولم تتأثر بغياب الشرطة. وحين فهمت من بعض النمامين أن التحقيق في بعض القضايا يخضع للملاءمات السياسية، فإنني كدت أقتنع بأن كشف الحقائق في قضايا معينة، وإخفاءها أو التسويف فيها في قضايا أخرى وثيق الصلة بالإرادة السياسية. بأكثر من اتصاله بالاعتبارات القانونية والتحريات الأمنية.

لا أخفي أن هذا الهاجس أقلقني، لأنه يعيدنا إلى أجواء مرحلة ظننا أن الثورة تجاوزتها وطوت صفحتها. صحيح أن الأخبار التي تنتشر بين الحين والآخر عن تعرض بعض الناشطين للترهيب والتعذيب تشيع بيننا شعورا بالإحباط وتدفعنا إلى إساءة الظن بأولي الأمر. لكني ما تمنيت أن يصل الأمر بنا إلى الحد الذي يجعل القرار السياسي أو السيادي هو الذي يحدد مصير قضايا كبرى تهم الوطن والسلام الاجتماعي.

حلا لإشكال الغموض الذي يحيط بالفاعلين في بعض القضايا المهمة، وجدت أن قصة الجن الذي سلب قاضي المدينة إرادته وقبض الرشوة يمكن أن تخرجنا من المأزق، بحيث نقول مثلا إنه تم التعرف على الذين أطلقوا النيران على المتظاهرين ولكن تبين أنهم كانوا مسلوبي الإرادة. لأنهم كانوا مركوبين من الجن الذين فعلوها. وربما بدا ذلك حلا مريحا، لكن المشكلة أن القصة التي صدقها البعض في السعودية يتعذر تصديقها في مصر. وأننا إذا أوردناها فقد نخرج حقا من المأزق، لكننا سنقع في فضيحة بجلاجل!

(السبيل)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات