المعركة ليست بين القوميّين والإسلاميّين

ليس صحيحاً على الإطلاق تصوير ثورة الشعوب العربية أنّها معركة بين القوميّين والإسلاميين, وكلّ من يدّعي ذلك فهي محاولةٌ يائسة وفاشلة في سياق خداع العالم, وصرف الأنظار عن حقيقة المعركة وجوهرها.
حقيقة الصراع وجوهره أنّه يدور بين الأنظمة المستبدة الفاسدة التي احتكرت الحكم والسلطة لسنوات طويلة باسم العروبة وباسم القوميّة وباسم التحرير من الاستعمار, وجاءت إلى الحكم بطريقة غير مشروعة, واستولت على السلطة في خلسة من الجماهير التي استهلكت في حروب تطهير الأرض من الاستعمار الغربي والغزو الأجنبي, من جانب , وبين الشعوب العربية المستضعفة من جانب آخر التي خدعت بالشعارات الرنّانة والخطاب الثوري السطحي الأجوف الذي لم يحقق للشعوب العربية نهوضاً ولا تقدماً, ولم يستعد أرضاً محتلّة فضلاً عن عجزه في مواجهة العدوّ المغتصب ومنع طائراته من اختراق الأجواء والحرمات.
الشعوب العربية صنعت ثورة شعبية ضمّت مختلف المكوّنات والتيارات والأفكار السياسية والاجتماعية المتعددة, جمع بينها الوقوع تحت الظلم والقمع والكبت, ومصادرة الحقوق والحريّات الشخصيّة والعامّة, وفقدان الكرامة, ومصادرة حق الشعوب باختيار الحكومات ومحاسبتها ومراقبتها, وهذا الشعور ليس مقتصراً على الإسلاميين, وإنّما هو شعورٌ مشترك للغالبية الساحقة لعامّة المواطنين, ولا نستثني من ذلك إلاّ قلّة قليلة من النخب الفاسدة التي استأثرت بالسلطة والمناصب والثروة.
الثورة الشعبية العربية لا تريد استبدال نظام استبدادي بنظام استبدادي آخر, ولم تقم من أجل تغيير لون سياسي بلون سياسي آخر, ولا تريد استبدال إسلاميين بقوميين أو اشتراكيين, بل تريد بكل وضوح استبدال نهج بنهج وسياسات بسياسات, وبعبارة أكثر وضوحاً تريد إنهاء عصر الاستبداد وحكم الفرد والانتقال إلى حكم ديمقراطي مدني, يجعل الشعب مصدراً للسلطة.
الشعوب العربية تريد الاحتكام إلى صناديق الاقتراع, بحيث تصبح نتيجة الصناديق حكماً عادلاً; بعيداً عن التسلط والظلم, وبعيداً عن منهج الإقصاء والاستفراد, وتهميش الرأي الآخر.
الشعوب العربية تريد أن تصبح مثل كل شعوب العالم, قادرة على اختيار الحكومة بناءً على قانون انتخاب يكرّس التنافس بين البرامج السياسية والقوائم الحزبية, بعيداً عن الانتماءات الجهوية الضيقة وبعيداً عن التعصب بكل أنواعه وأشكاله, من أجل الوصول إلى مجتمع ديمقراطي متقدم, تسوده الحريّة, ويسعى نحو التقدم من خلال المشاركة الفاعلة بين كلّ المواطنين بكل اتجاهاتهم وبكل انتماءاتهم الفكريّة والسياسية.
ما أطلبه من الأحزاب السياسية جميعها, مهما كان انتماؤها الفكري أو السياسي, هو أن لا تنجرّ إلى التبعية للأشخاص, أو الأنظمة, مهما كانت شعاراتها أو خطابها, وينبغي للأحزاب ذات الانتماء القومي بدرجة أولى أن لا تربط مصيرها بالأنظمة الفردية الديكتاتورية المتسلطة, وأن يدوروا مع المبادئ والأفكار وليس الأشخاص.
إنّ أولئك الذين يحاولون تشويه ثورة الشعوب العربية التي ترنو إلى الحريّة والديمقراطية مخطئون, كما أنّ أولئك الذين يحاولون خداع الجماهير بتغيير لون الصراع بأنّه بين فئات أو بين قوميين وإسلاميين هم أيضاً مخطئون, وهي مجرد حيلة ضعيفة لا تقوى على الصمود.
(العرب اليوم)