بين رمضاء النظام ونار الجامعة

تقف سوريا اليوم بين فكيّ كماشة أو شفرتي مقص، نظام دموي لا يرحم، وجامعة كالأكمة، وراءها ما وراءها، نظام لم ير الحل السياسي خياراً للخروج من الأزمة، حتى بعد مرور أزيد من ثمانية أشهر وأربعة آلاف شهيد على اندلاعها، وجامعة نعرف وتعرفون، أن المحركين الأساسيين لقرارها وتوجهاتها، بحاجة للإصلاح والتغيير، كحاجة سوريا له، وربما أزيد قليلاً أو كثيراً، نظام يكذب، من نشرة الطقس إلى "الموقف السياسي"، وجامعة بلا صدقية، لم تعد ترى في "التعريب" سوى سُلّمة "للتدويل".
بعد "نوبة" الغضب التي اجتاحت دمشق إثر قرار المجلس الوزاري العربي الطارئ تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية ومنظماتها، تمالك النظام أعصابه، وقرر المضي في "لعبة شراء الوقت"، وهذه المرة معتمداً تكتيك "الهروب إلى الأمام"، الهروب من "دلف" الوزراء ومجلسهم ولجنتهم الخاصة، إلى "مزراب" القمة، الهروب من جمر المبادرة العربية التي قبلها لفظياً، وأطلق في وجهها أكثر من مائة جثة لشهيد أو شهيدة، إلى نار اللجنة الوزارية وفريق المراقبين ولجان تقصي الحقائق، فيما المطلوب من النظام، ومن النظام وحده، أن يشرع ومن دون إبطاء، ومن جانب واحد، ومن دون قيد أو شرط، في وقف القتل والتشريد والملاحقة، وسحب الجيش إلى ثكناته، وتبييض السجون، ورفع القيود على حركة المعارضين في الداخل والخارج، إقالة الحكومة وتشكيل حكومة من المعارضة، حل البرلمان والدعوة لانتخاب جمعية تأسيسية تعددية، تضع دستوراَ جديدا للبلاد، وتحديد موعد قريب لانتخابات رئاسية تعددية، وإطلاق حرية الصحافة والإعلام ورفع اليد عن المجتمع المدني.
النظام لا يفكر على هذا النحو، النظام منهمك في "حرب المدن" مع شعبه، يكتفي بإطلاق الحد الأدنى من الوعود -التي لا تحترم- والشائعات التي تبقي الناس والأنصار والحلفاء في حالة انتظار دائمة، ألم يقل العماد ميشيل عون، صديق دمشق، بأن الأزمة السورية باتت وراء ظهورنا، ألم يضرب موعداً مع "النهاية الرسمية" للأزمة هو يوم غدٍ الثلاثاء، ألم يُشع الإعلام الصديق لدمشق، أنباء "المصالحة" بين النظام السوري والنظام العربي، قبل أن تنفجر قنبلة الاجتماع الطارئ في وجه الجميع، وتدخل الأزمة السورية في مقطع جديد من نفقها المظلم؟ النظام يهرب من "المبادرة" إلى "تقصي الحقائق" ومن الوزراء إلى الملوك والرؤساء، في حين أن مفاتيح حل الأزمة السورية ما تزال في "جيب الأسد"، وقرار التصعيد أو "الحلحلة" يُتخذ في "قصر الشعب" على قمة الجبل، لا في "المقر الدائم" على مقربة من ميدان التحرير، النظام يأخذ على "التعريب" لأنه بوابة "التدويل" وخطوته الأولى، متناسياً عن سبق الترصد والإصرار، أن الأزمة الوطنية في سوريا، ما كان لها أن تغرق في دهاليز "التعريب" وأن تقارب ضفاف "التدويل"، لولا إصرار النظام على تفادي "الحل الديمقراطي" للمسألة الوطنية، وإصراره على الحكم بـ"عقلية حماة" وأساليب أواخر السبعينييات وأوائل ثمانييات القرن الفائت.
إن كان هناك من ينبغي أن توجه إليه أصابع الاتهام عن المآلات الخطرة التي انتهت إليها الأزمة السورية، فهو النظام نفسه، الذي أعطى أذناً من طين وأخرى من عجين، لكل النصائح و"الوصفات"، لكل الأصدقاء والحلفاء، الأقربين و"الأبعدين"، هو وحده من يتحمل وزر الدم السوري الطاهر المراق في شوارع حمص وميادين حماة وأزقة درعا.
أما الجامعة العربية، التي تبدو مختطفة من قبل "حفنة" من الدول العربية، فإن قراراتها وتوجهاتها تشكو نقص الصدقية ولا تبعث على ثقة المواطن السوري والعربي سواء بسواء، فالدول الأكثر حماسة للتغيير والإصلاح في سوريا، هي ذاتها، بحاجة أشد وأمسّ، للإصلاح الشامل والتغيير الجذري، وهي إذ تبدي ما تبدي من تعلق بالديمقراطية "الأنجلو ساكسونية" في سوريا، تمارس أنماط حكم سياسي تنتمي لعصر ما قبل الصناعة، إنها تبحث عن أهداف أخرى تحت دخان كثيف من الشعارات الزائفة، إنهم يصفّون الحساب، مع مواقف ومحاور وسياسات وتحالفات، نظم ومنظمات، طالما ناصبوها العداء، قبل ربيع العرب وبعده، وبالأخص منذ حرب تموز وانتخابات فلسطين، إنهم يواصلون ما بدأوه مع كوندوليزا رايس والمحافظين الجدد في واشنطن.
أما "التعريب" الذي تتحدث عن الجامعة المختطفة، فك الله أسرها بعد أن ردّ غيبتها، فهو بلا أنياب أو مخالب، بلا ادوات أو آليات، التعريب في الشرط العربي القائم، لن يتعدى حدوده الليبية، لن يزيد عن كونه عتبة على طريق "التدويل"، ولكن بمظلة عربية وبساط أحمر عربي، نعم، لقد أصبح التعريب "اسماً حركياً" للتدويل.
والتدويل في ظروف الأمم المتحدة والالتباسات الدولية المحيطة بالمسألة السورية، سينتهي إلى "الأطلسة"، تماماً أيضاً، كما حصل في ليبيا، وبمباركة علنية متوفرة في كل الأحوال، من بان كي مون، أقله بصفته الشخصية، إن تعذر صدور قرار عن مجلس الأمن، وخطر "الأطلسة" في الحالة السورية، ليس أقل فداحة على مستقبل سوريا ووحدة شعبها وترابها، وموقعها وموقفها، من الأخطار التي قد تترتب على بقية السيناريوهات والاحتمالات التي قد تنتظم الأحداث السورية القادمة.
بين هذين الحدين، تراوح خيارات الأزمة السورية واحتمالاتها، وفي كل الظروف والأحوال، يبدو أن سوريا والإقليم، ينجرفان نحو "الهاوية" التي يقفان على حافتها الآن، يبدو أن صفائح "الفالق الزلزالي" قد أخذت بالتحرك، يبدو أن وطيس المواجهة قد اشتد، والمؤسف حقاً أننا لا نستطيع أن نردد هذه المرة المقولة الذائعة: أشتدي أزمة تنفرجي، بل لعلنا نميل للقول: اشتدي أزمة تنفجري.
(الدستور)