خوذ وطرابيش وعمائم!!

شهدت مصر في الربع الاول من القرن الماضي صراعا وسجالات واسعة بين من كانوا يسمون "المطربشون" نسبة الى الطربوش وبين "المعممين" نسبة الى العمامة، وكان هذا الترميز يتجاوز غطاء الرأس الى ما هو ابعد فالمطربشون هم الافندية والاميل الى العلمانية والتحديث بخلاف المعممين الذين كانوا متدينين على طريقتهم، ونذكر للمثال فقط ما حدث لكل من طه حسين بعد صدور كتابه في الشعر الجاهلي ومصطفى عبدالرازق بعد ان اصدر كتابه الاشكالي وهو الاسلام واصول الحكم فقد عانى الاثنان من التزمت في تلك الايام رغم ان الشيخ عبدالرازق كان معمما، لكن عمامته رؤيت لدى البعض طربوشا من لون اخر.
سجال مزمن في مصر.. بين ثالوث الخوذة والطربوش والعمامة، وها هو يندلع الان لان هناك من يرون من الناشطين السياسيين والاحزاب ان الخوذة تريد الاستيلاء على الدولة، وحجة هؤلاء ان مصر الحديثة كدولة منذ محمد علي باشا حتى مبارك كانت تقاد بالجيش، مقابل هذا الحذر الشديد من عودة الخوذة الى ما يسمى الجمهورية الثانية بعد جمهورية يوليو الاولى حذر اخر من العمامة فثمة إحساس لدى البعض ان الاخوان المسلمين الذين دخلوا الى الحراك السياسي من بابه الواسع بعد ان كان اسمهم الجماعة المحظورة قد يفوزون بالاغلبية في انتخابات مجلس الشعب.
وعندئذ تكون صياغة دستور من نصيبهم قبل غيرهم، ونعرف بالطبع ان الطربوش قد ولى، ولم يبق منه غير اثر فولكلوري في افلام الابيض والاسود والمسلسلات التلفزيونية لكن دلالته بقيت، فهو يزمز الى حد كبير لمتعلمي وناشطي الطبقة الوسطى او ما تبقى منها بعد ان اوشكت على الغروب فقبل سنوات اصدر كاتب مصري كتابا بعنوان دراماتيكي بعنوان وداعا للطبقة الوسطى تلك الحاضنة الاجتماعية والسياسية والثقافية لمشروعات نهضوية منذ القرن التاسع عشر وقد عرفت بلدان عربية واسلامية مثل هذا السجال بين الخوذ والطرابيش والعمائم لكنه يتجسد في مصر بنحو اكثر وضوحا بسبب جذوره العميقة، ولان ستين عاما من حكم العسكر خلق لدى الحالمين بالدولة المدنية الديمقراطية ما يمكن تسميته فوبيا الخوذة، وما نسمعه عبر الفضائيات في مصر وخارجها خلال هذه الاسابيع هو مطارحات حادة بين الخائفين من احتكار الخوذة للسلطة وبين من يرون ان الجيش المصري له شأن اخر، فهو الذي انقذ الثورة في مطلع هذا العام.
اطرف ما قيل في هذا السجال هو رسم كاريكاتوري يبدو فيه الطبيب وهوخارج للتو من غرفة العمليات مضطربا وقلقا.. وهو يقول بان العملية لعسرها اضطرته الى التضحية بالرئيس السابق مبارك وولديه وذلك كي ينجو النظام!!
والارجح اذا احتكمنا للعديد من القرائن الثقافية والسياسية ان الصراع سوف يتصاعد بين الخوذة والطربوش بمعناه الحديث والعمامة فقد فاز في تونس حزب النهضة وهناك ما ينذر البعض ويبشر اخرين بفوز مماثل في مواقع اخرى.
ان معنى ذلك كله ان الدولة العربية الحديثة لم تستكمل اقانيمها بعد، ما دامت هناك قدم في الماضي واخرى في الهواء..
اما السبب في حمى هذه المطارحات فهو تراث الاستحواذ على السلطة ثم محاولة تأبيدها.. سواء تعلق الامر بالخوذة او الطربوش او العمامة!!(الدستور)