التخلف الوقح !!

الجهل نوعان، أحدهما بريء، لا حول لمن ابتلي به رغماً عنه ولا قوة، والثاني مسلح بالزهو ومدجج بالتعالي، وكذلك التخلف فمنه الخجول الذي ورث حمولة شاقة حتى ناء بها ومنه الوقح الذي يريد أن يحول نفسه الى نموذج يُحتذى، والنمطان الأخيران من الجهل والتخلف، أعني المسلح بالزهو والوقح لا علاج لهما، وما من رجاء في شفاء المصاب بهما أو بأي منهما، لأن شرط المعرفة الأول هو الاعتراف بالجهل، ولأن التاريخ كما القانون لا يرحم الحمقى، فهو يحول التخلف الوقح الى سلاسل جبال مأهولة بقطعان وحشية، بحيث يصبح للتخلف من هذا النوع قوانين نمو مضادة، بحيث يتفاقم ويتضاعف ثم يصبح طريقاً معبداً الى الجحيم، كان أول شرط لأمم وشعوب هزمت في حروب أو تأخرت وتقهقرت وأخرجت من التاريخ رغم مكوثها في الجغرافيا هو النقد الذاتي، ومراجعة منظومة من المفاهيم والمعايير والقيم والثقافة السائدة هي التي أدت أخيراً الى التقهقر، هذا ما فعله الروس واليابانيون والألمان وغيرهم، فالألمان كان أول ما راجعوه وفقدوه مناهج التعليم في بلادهم، أما اليابانيون فقد حولوا الهزيمة الى مرتكز ورافعة، لكن من أخذتهم العزة بالإثم ومضوا معصوبي الأدمغة والعيون معاً حتى الهاوية، هم الذين توهموا بأنهم معصومون أو أن لديهم بوليصة تأمين أبدية مع التاريخ والبقاء ضد الانقراض، وبهذه المناسبة فإن الانقراض ليس عضوياً أو ديناصورياً فقط، فثمة شعوب ولغات انقرضت معنوياً رغم أن لها أفواهاً فاغرة للاسفنج تنتظر أي شيء ليملأها، تماماً كما أن الإبادة لم تعد في عصرنا عضوية، فهناك ابادات لا تصاحبها قطرة دم، لكنها بعد التهشيم والتهميش وانهاء الصلاحية تتحول الى مجرد كائنات تعيش لتأكل فقط، هذا اذا وجدت الأكل.
ما يفزعنا من الجهل المدجج بالكبرياء والتخلف الوقح هو حالة الغيبوبة التي يعيشها المنكوبون بهذه الفيروسات شديدة التأقلم..
والعرب الذين قالوا فالج لا تعالج كان أجدر بهم ان يقولوا: جاهل مزهو بجهله لا تعالج، لأن الفالج قابل بشكل أو بآخر للعلاج.
من ملامح التخلف الوقح الاعتقاد الخاطئ بأن المتخلف هو الاكثر تقدماً، وهو أحياناً يوغل في غيبوبة العقل فيشفق على الأعلم منه، وهو كما وصفه المتنبي ينعم لكن في أقصى شقائه وهو آخر من يعلم..
والمفارقة هي ان كثيرا من الندوات الموسمية التي تعقد في عواصم العرب حول التخلف تتحول الى عينات نموذجية لهذا التخلف، سواء من حيث الرؤى أو المناهج والمقتربات التي تعالج بها ظواهر التقهقر، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه ولن يعطيه على الاطلاق، فإن التعويل على من ليسوا أهلاً للخبرة والأمانة هو بمثابة انتحار، ورغم ان موروثنا الثقافي والشعبي زاخر بالحكم والامثال في هذا السياق، إلا أن ترجمة هذا الموروث الى سلوك نادراً ما تحدث، فالتشرد لم يصب البشر فقط، بل أصاب امثالهم وامثولاتهم وحتى مفردات لغتهم التي هربت من القواميس.
الجهل باختصار اناء فارغ لكنه نظيف وقابل للامتلاء، لكن عندما يكون مزهواً ووقحاً فهو اناء مليء بسائل عفن تطفو عليه الطحالب، ولا بد من افراغه وتعقيمه وغسله كي يصبح جهلاً بريئاً وفي درجة الصفر!(الدستور)