ما الذي أضعف الدولة؟

عندما التزم الرئيس، أمس، بأن يتعامل بحسم مع ملف الفساد، من دون محاباة ولا تصفية حسابات، فقد ضرب على الوتر الحسّاس للمواطنين، لكنهم لن يقبلوا بشراء الكلام والوعود اليوم، فهم بانتظار خطوات جديّة حقيقية في التعامل مع هذا الملف، الذي ما يزالون يشعرون بأنّه يحظى في جوهره الحقيقي بالحصانة.
كان قراراً جيّداً من الرئيس بأن يوقف "التسوية" في ملف "موارد"، إذ إنّها لو تمّت كانت ستؤدي إلى ردود فعل شعبية غاضبة وشرسة، وستحمل دلالات سياسية كارثية تعزّز القناعة بعدم جدية محاربة الفساد، مهما كانت الحجج القانونية والاقتصادية.<br />وقد أحسن الرئيس، أيضاً، بتحويل ملفي الكازينو وسفر خالد شاهين إلى القضاء، فهما من القضايا التي استفزت الرأي العام كثيراً، خلال الفترة الأخيرة، ولم تكن الخلاصات التي انتهت إليها مقنعة.
في الوقت نفسه، يمثّل ملف "سكن كريم"، الذي توشك لجنة نيابية على متابعته، ملفاً آخر أثار الجدل والاختلاف، وانتهى به الأمر بعد الإنكار والمعاندة من الدولة إلى إهدار ملايين الدنانير والفشل الذريع، وهو يستحق أن تكشف أوراقه أمام الرأي العام، وأن يعرف الناس حجم الخلل في الإدارة والأخطاء الكارثية والتلاعب بالمال العام.
ثمة كثير من الملفات الكبرى التي شغلت، وما تزال، الرأي العام، وجميعها تزامنت مع "سنوات" استبيح فيها المال العام، وكانت محصّنة من النقد والمساءلة والمراقبة الحقيقية، تلك الفترة التي تزاوج فيها الموقع الرسمي مع "البزنس"، فحدث التطاول والتلاعب بالمال العام، مع غياب شبه مطلق للشفافية والمعلومات، ولدور المؤسسات الرقابية، وبرلمانات عاجزة وحكومات تمرّر القرارات الثقيلة من دون أن يرف لها جفن.
ما ينهي الجدل الشعبي حول الفساد، بصورة شبه كاملة، هو قانون "الثراء غير المشروع"، الذي يجب أن يتم التوسع في مضمونه وتطبيقاته على أغلب المسؤولين السابقين ذوي المواقع العليا لمحاسبتهم على ثرواتهم التي تستفز المواطنين. وذلك لن يهرّب الاستثمار بل هو تأكيد على أن الدولة تحتكم إلى القانون وتتسم بالشفافية، ولديها القدرة على تصحيح الأخطاء. وبغير تصحيح تلك الأخطاء وتقديم كشف حساب حقيقي مع الفساد، فإنّ الدولة لن تمتلك القوة والمصداقية والقدرة على فرض القانون على المواطنين جميعاً.
المفارقة أنّه إذا لم تكن هنالك شفافيةٌ في الأروقة الرسمية، وتمكينٌ من حق الحصول على المعلومات، ومحاسبةٌ، وإعلامٌ حرٌّ مهنيٌّ؛ فإنّ النتيجة ليست النجاح في "إخفاء الفساد"، بل تضخيمه لدى الرأي العام، ليبدو وحشاً رهيباً، يقتات على مائدة المواطنين من خبز أبنائهم وحقوقهم الأساسية.<br />الفساد يهدم مصداقية الدولة لدى المواطنين جميعاً، ويؤدي إلى فقدان الإيمان بقيمها وبمصداقيتها وهيبتها، فتبدو مثل الرجل المريض العاجز الذي يخشى من أبنائه الفقراء الضعفاء الشباب المحرومين، وهم يحمّلونه المسؤولية الكاملة عن أوضاعهم الاقتصادية المتدهورة، لأنّه فرّط في أموالهم وتلاعب بقوت يومهم، وباع ما ورثه من آبائه بسبب إهماله.
مثل هذه البيئة السياسية، التي تنتعش فيها "طبائع الفساد"، ستؤدي إلى تجذير الفجوة بين الدولة والمجتمع، وتصيب العلاقة بينهما بأمراض الشك، والمزاجية السلبية، وسيصبح عنوانها: هيمنة خيبات الأمل ومشاعر السخط والإحباط، وهي جميعاً شروط للانفجارات والزلازل السياسية، والاختلالات الداخلية.
في المحصلة؛ الحديث عن الفساد ليس ترفاً أو مسألة هامشية ثانوية يتسلّى عليها المواطنون في أوقات فراغهم، بل هو عنوان رئيس للأزمة السياسية في البلاد، وجرثومة لأمراض خبيثة وأخطرها ضعف الدولة!(الغد)