عندما يتم اختزال الأوطان بالأنظمة

من اخطر الاشكالات المعقدة التي تواجهها ثورة النهوض العربي تلك المتعلقة بمفهوم الوطن والامة, حيث تم تقزيم فكرة الوطن والانتماء للوطن والتعلق بالوطن, والتضحية من اجل الوطن الى حساب الانتماء للنظام والولاء للنظام والتعلق بالنظام والتضحية من اجل النظام, وربما يتم التقزيم الى ابعد من ذلك حيث يصبح الانتماء للزعيم والولاء للزعيم والتعلق بالزعيم والتضحية من اجل الزعيم, هذا فضلاً عن نسيان الامة أو الشعب, حيث أصبح الشعب والامة عبارة عن ممتلكات للزعيم, وهم عبارة عن ثروة بشرية لا أكثر حيث يكون الشعب مصدراً للخدم والحشم, ومصدراً للعمالة ومصدراً للخدمة والحراسة, ومادة منتجة لتدعيم قوام الزعيم والنظام.
وبدلاً من أن يكون الشعب مالكاً للوطن, ومصدراً للسلطة, أصبح من مكملات الدولة وجزءاً من الثروة وأصبح شعار الزعيم العربي والنظام العربي: " الانسان أغلى ما نملك ".
والمشكلة الكبرى أن هذا المفهوم تسلل الى عقول الناشئة والجماهير وأصبحت الثقافة العامة السائدة في المجتمع, وأصبح الشعب عبارة عن مجموعة أفراد, يتسابقون في فن التقرب من الزعيم وأحياناً من النظام من اجل الاستمرار في العيش والحصول على الامن, والرغبة في الترقي أو الحصول على المكاسب العليا من الوظائف والوصول الى المراكز المرموقة, والظهور على المسرح والبقاء تحت الاضواء.
هذا التسلل لا يقتصر على العامة, بل اخترق عقول الكتاب ومن ينسبون الى عالم الفكر والثقافة والاكاديميا, فتم اختزال القومية بالنظام, وتم اختزال العروبة بالزعيم, فنشأت أحزاب من رحم القومية والعروبة لنجدها تنسلخ عن الشعوب ومجاميع الامة لتلتصق بالانظمة, وتمجد الانظمة, وتسبح بحمد الزعيم, ونسيت أصلها ومعتمدها, فكلمة قومية مشتقة من ( قوْم ), وهم المجموعة الكبيرة التي تقوم قومة واحدة للقتال.فتنزلق وتصبح أداة لقمع الشعب وتفريق القوم, واتهام مجموع الشعب بالعمالة للأجنبي والتآمر على القومية!!
وتواطأت النخب مع الانظمة والزعماء, وأسهمت في تحويل الاوطان الى سلعة, وأسهمت في تحويل مؤسسات الوطن الى مؤسسات نظام, فأصبح الجيش جيش النظام, وأجهزة امن الوطن أصبحت أجهزة امن النظام وتم استبدال ولائها وانتمائها للوطن والامة, لتصبح أدوات في يد الانظمة والزعماء للبطش والتنكيل بالشعب وحفظ امن الزعيم.
نحن بحاجة الى ثورة ثقافية عارمة, تطيح بكل هذه المفاهيم المقلوبة وتعيد إنتاج أمة جديدة متماسكة, تنتمي للوطن, وتحمي الوطن, وتضحي من اجل الوطن, وتتسلح بالعقيدة والايمان والفكر الحضاري النبيل الذي يعلي شأن الكرامة الآدمية للبشر, ويحرر إرادة الشعب, ويوحده على المبادئ العامة الصحيحة والقواعد الراسخة السليمة, التي تنطلق من مفهوم أن الشعب هو المالك الحقيقي للوطن, وهو المصدر الوحيد للسلطة, يختار الحاكم ليكون وكيلاً عن الامة في خدمتها وحراسة حقوقها وصيانة كرامتها, وتعزيز وحدتها, وحفظ مكتسباتها, وفي الوقت نفسه يكون خاضعاً لمراقبة الامة ومحاسبتها, بكل شفافية وطواعية ورضا.
لقد أسهمت الانظمة العربية بتقويم حقيقة الوطن, وبترت ذاكرة الاجيال عن التعلق القديم بوطنهم وأمتهم, فأصبحوا هشيماً تذروه الرياح.
لقد أسهمت الانظمة العربية في تقسيم الامة وتفتيت الشعب, وإفساد الوحدة الاجتماعية, وأسهمت في تغذية النزعات التفريقية, من اجل اضعاف الشعب وتفريقه حتى لا يقوى على تجميع إرادته الحرة الموحدة القوية في ممارسة السلطة العليا, واستعمال الحق في اختيار الزعماء ومراقبتهم ومحاسبتهم.
وها هم اليوم يستغلون أبناء الشعب لضرب الشعب, واستخدام مؤسسات الوطن لمصلحة الافراد والنخب, ويقبضون على الكرسي حتى الرمق الاخير, وهناك من يصفق, وهناك من يبرر, وهناك من يضلل, وهناك من يرفع "قميص عثمان". من اجل استمرار المذبحة ليصبح نهر بردى, نهراً من دماء الضحايا من الاطفال والمدنيين المسالمين الذين خرجوا يطالبون بكرامتهم وحريتهم, واستعادة إنسانيتهم المهدورة على أقدام أدعياء النضال والقومجية المزيفة المقلوبة.
(العرب اليوم )