الإمارات في عيدها الأربعين: «روح الاتحاد»

تحت عنوان “روح الاتحاد” تجري في دولة الإمارات العربية المتحدة، الاحتفالات بالذكرى الأربعين لقيام “أطول” و”أصلب” وحدة عربية في العصر الحديث...لقد فاقت بحسابات الزمن، مختلف “الوحدات” التي شهدتها منطقتنا منذ المنقلب الثاني من القرن الفائت...الوحدة المصرية – السورية لم تبلغ من العمر عامها الثالث، والوحدة بين شطري اليمن تترنح على أعتاب عشريتها الثالثة، تحت ضربات الفساد والاستبداد والانقسام والحراكات، والوحدة الأردنية الفلسطينية (وحدة الضفتين) عاشت زمناً أقل بقليل، قبل أن تواجه قرار “فك الارتباط”، وبين هذه وتلك من “الوحدات”، طفت على السطح “وحدات” أخرى، دون أن يكون لها نصيب من الحياة، سيما تلك التي أطلقها وبادر إليها العقيد المخلوع.
وحدها دولة الإمارات العربية المتحدة، شقّت طريقاً مغايراً...وها هي تدخل عقدها الخامس، أكثر صلابة وأقل عرضة لرياح الانقسام والتقسيم، في زمن عجزت فيه نظم وكيانات، طالما ظلّت موحدة تاريخياً، عن الحفاظ على وحدتها الوطنية والترابية، فالسودان بات سودانين، وهو عرضة لانقسامات لاحقة...والعراق، تحتفظ أطراف ومكوناته الثلاثة برباط واهٍ، معرض للانقطاع عند أول هزّة...وسوريا، قلب العروبة النابض، لم تعد تميز مواقف أبنائها من دون أن تسأل عن خلفياتها القومية والطائفية والمذهبية...أما لبنان فتلك حكاية أخرى...إنها قصة فشل للدول الوطنية العربية الحديثة، خصوصاً تلك التي عاشت في ظل نظم إيديولوجيا، ظاهرها فيه الوحدة، وباطنها فيه الانقسام.
لقد ساعدت ظروف كثيرة على إنجاز “دولة الوحدة”، أو إتمام “وحدة الدولة”....فالإمارات السبع بعوائلها الحاكمة والمحكومة، تربطها بعضها ببعض صلات قربى وجوار ومصاهرات، وهي قليلة التعداد...وتحظى إحداها (أبو ظبي) بمكانة مركزية نظراً لاقتدارها المالي وتفوقها الديموغرافي والجغرافي، ما جعل أمر الشقاق والنزاع، يتراجع إلى مرتبة متأخرة في العلاقات البينية الإماراتية، حتى بالنسبة لدبي التي أعطت الإمارات مكانة عالمية لا تضاهى، وإن ظلت في نظرتها لأبو ظبي، تحتفظ بصورة “الأخ الأكبر”... من دون أن ننسى الدور “المحوري” الذي لعبته شخصية الرئيس المؤسس للدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، التي لعبت دور “المُجسّر” بين الإمارات السبع، والعنصر الجامع لدول مجلس التعاون الست، والرجل الذي احتفظ بإرث عروبي بارز، ما زال يُحفظ له...وإن كان لشعار “روح الاتحاد” أن يتجسد في شخص، فليس غير الشيخ زايد من يجسد هذه الروح أفضل تجسيد.
خلال السنوات الأربعين الفائتة، ظل الحديث عن الإمارات يكتسب غالباً طابع “الدهشة” و”الإدهاش”...أنت وإن كنت زائراً منتظماً، إلا أنك في كل مرة تذهب إلى دبي أو أبو ظبي، ستجابه بوابل من القصص التي تبدأ عادة بـ”أطول، أعلى، أسرع، أكبر، أعرض، أول...إلى غير ما هنالك من صيغ المفاضلة التي “تمجّد” معجزة العمران والتنمية في هذا البلد...وثمة ثقافة سائدة في أوساط المقيمين والمواطنين على حد سواء، يمكن تسميتها بـ”ثقافة الإدهاش”...لكأنهم يتصفحون ردات فعلك على ما يأتونك به من قصص إنجاز وأرقام قياسية...إنهم لا يكلون ولا يملون من سرد المزيد منها، في كل مرة يشعرون أنك لم تُصب بالدهشة كما ينبغي.
لا شك أن النفط لعب دوراً حاسماً في “أسطرة” الإنجاز الإماراتي، في دولة تضاعف ناتجها المحلي الإجمالي 150 مرة في 40 سنة...لكن النفط وحده لا يكفي لتفسير المسألة والإحاطة بها من مختلف جوانبها...ليبيا/ العقيد على سبيل المثال، كانت دولة نفطية كذلك، بل وثرية بمورادها الطبيعية، لكن العقيد نجح في تبديد ثروات ليبيا، وسجل رقماً قياسياً في إبقاء بلاده أربعين عاماً أو يزيد في مربعات الفقر والتخلف...العراق أيضا، كان دولة نفطية ثرية للغاية، ولديه إرث حضاري وشعب متفوق وموراد متنوعة، لكنه بالكاد يقوى اليوم على توفير ماء الشرب النظيف والكهرباء لأهله...ثمة سياسات اتبعت في هذه البلاد، جعلت النفط نعمة، لا نقمة على شعبه، كما حصل في بلدان عدة...ثمة سياسات اتبعت، جعلت “ثاني اقتصاد عربي” يتجه نحو تنويع موارده ومصادره، ودفعت بالبلد المشهور بنفطه، أن يكون الأشهر في البحث عن مصادر بديلة للطاقة المتجددة والنظيفة...ثمة تخطيط بعيد المدى، يجعل بلداً كهذا يحتضن في مساحته المتواضعة، مقيمين من كل دولة في العالم تقريباً.
في العيد الأربعين لقيام الاتحاد، تواجه الإمارات تحديات جساما... بعضها ناجم عن “الصراع الموروث” مع إيران حول الجزر الإماراتية المحتلة...و”الصراع المكتسب” معها، في سياق حرب المحاور وصراع الأحلاف التي شهدت المنطقة صعودها في السنوات الأخيرة...ولديها “التهديدات” الناجمة عن ربيع العرب، وما تمليه ثورات الشعوب العربية وانتفاضاتها من تحديات تتصل بتحديث وتطوير النظام السياسي...ولديها إلى جانب هذا وذاك، الأزمات المندلعة في العالم العربي، والتي تبدو الإمارات “مشتبكة” مع أكثر من واحدة منها، وبطريقة غير معهودة في السياسة الخارجية الإماراتية.
بالنسبة للمسؤولين الإماراتيين، فإن السياسة الخارجية لبلادهم تستلهم “إرث زايد” القائم على “الحياد” و”التوازن” و”عدم التورط” في انحيازات لأفرقاء الصراع في العالم العربي في مواجهة أفرقاء آخرين...أما بالنسبة لكثير من المراقبين المتتبعين عن كثب للسياسة الإماراتية الخارجية، فإن تغييراً قد طرأ على أداء هذه السياسة، فالإمارات باتت طرفاً مباشراً أو غير مباشر، معلناً أو مضمراً، في عدد من الأزمات المندلعة في المنطقة، من لبنان إلى ليبيا، مروراً بفلسطين وانتهاء بسوريا...الأمر الذي يبقي في الذهن، الكثير من الأسئلة الحائرة والتساؤلات المعلقة...إلى أي حد، ما زالت السياسة الخارجية الإماراتية ملتزمة بـ”إرث زايد”؟...هل قررت الدبلوماسية الإمارتية الانتقال من “الدفاع السلبي” عن مصالحها وأهداف سياستها الخارجية إلى “الهجوم الدفاعي”؟...هل هو هجوم دفاعي حقاً، أم بحث عن أدوار عابرة للحدود والجغرافيا الضيقة؟...كيف يمكن التمييز بين ما هو “أصيل” في هذه المواقف من جهة وما يؤخذ منها بالوكالة او النيابة عن آخرين؟...كيف سينعكس كل هذا وذاك على أمن واستقرار وسلامة دولة، هي الأكثر حساسية – ربما – حيال عدم الاستقرار...والاضطراب فيها، يترجم بتراجع مؤشرات كافة البورصات العالمية؟..
أسئلة وتساؤلات لا نقرأ الكثير عنها، ولم تتح لنا فرصة البحث فيها مع صناع القرار في الدولة...مع أن الإجابة عنها قد الأكثر إثارة لـ”الدهشة” و”الإدهاش” بالنسبة لي كواحد من مراقبي السياسة الخارجية الإماراتية...لذا سنتركها مفتوحة، على أمل إغلاقها ذات يوم.
(الدستور)