"المربع الحرج" : علينا الاختيار

منذ سنوات هيمنت "صورة نمطية" سلبية، غير صحيحة، لدى الحكومات، عن أبناء المحافظات والعشائر تتقوقع حول الكسل وثقافة العيب والاتكال على الدولة، والواسطة والمحسوبية وانتهازية نخبها السياسية.
ورغم أنّ جانباً كبيراً من هذه الصورة غير صحيح، إلاّ أنّ أصحاب هذه النظرية، في الوقت نفسه، لم يتساءلوا عن مسؤولية السياسات الرسمية عن هذا الواقع المتردي، بل لا أبالغ إن قلت بملء الفم: إنّه صناعة رسمية بامتياز!
قبل عامين خيّم علينا الرعب الحقيقي، ونحن نشاهد انتشار مظاهر العنف الاجتماعي في طول البلاد وعرضها وفي الجامعات وملاعب الكرة. وعُقدت ندوات وأجريت دراسات وأبحاث وشُكّلت لجان أكاديمية وبحثية، وُكتب عن صعود الهويات الفرعية وتدمير التعليم العام والعالي، وعن تراجع دور الدولة الثقافي والوطني وحلول الأمني محله، وعن أزمة القيم الوطنية لدى جيل الشباب.
لم تتغير السياسات الكارثية. لكن ما أتى على العنف، واقعياً، هو الحراك السياسي الجديد في المحافظات، ولدى أبناء العشائر، وقد أعاد بناء الخطاب الإصلاحي والضمير الوطني، وبدأنا نسمع لغة مختلفة عن المطالب الخدماتية والذاتية، وبرزت الهموم الوطنية والقلق من الأوضاع الاقتصادية.
انقلبت جهود الجهات الرسمية في تأليب أبناء العشائر والمحافظات ضد الإصلاح إلى تحريك المياه الراكدة، وبدلاً من ذلك طغى الوجه الإصلاحي الحقيقي، بل انتقل مركز "الحراك الشعبي" إلى المحافظات، وقد تخطّت نسبته إلى عدد السكان النشاط في المدن الكبرى.
الخطأ الرسمي الفادح تمثّل في تفسير الحراك وقراءته.
المفارقة أنّ الحكومات التي كانت تدّعي التذمر من الوضع السابق، وما يمثله من عبء اقتصادي وإداري وسياسي، هو من لجأ إلى الأساليب التقليدية نفسها التي أرهقت المنظومة السياسية والاقتصادية، هو من قام باستدعاء تلك الصورة النمطية والاستعانة بالجهات التي تمثّلها لمواجهة الحراك ومحاصرته!
فلم يتم النظر للصوت الإصلاحي في المحافظات على أنّه "فرصة ذهبية" لإعادة صوغ المعادلة السياسية على أسس صحيحة، بعد أن أدى تكلّس المعادلة الحالية إلى تفجير الأزمات المتتالية والإضرار بالنسيج السياسي وتعزيز قوى "الأمر الواقع" التي تخشى من التغيير والإصلاح.
وصف الوضع الراهن يدخل في إطار حالة عامة من التوتر والقلق الذي يسود داخل هذه الشريحة، فهي تعاني الأمرّين من الأوضاع الاقتصادية والضغوط اليومية، ولا تجد مناخات استثمارية وتنموية حقيقية لتخليق فرص عمل، وهنالك قصور واضح في الخدمات الأساسية، وتحديداً التعليم العام الذي يشكّل الحلقة المفقودة لتصحيح أوضاع الناس، ما يفسّر بروز دعوات الإصلاح فيها.
في المقابل هنالك نسبة كبيرة ممن يعملون في مؤسسات الدولة، ونسبة أخرى تخشى التغيير والقلق من نتائجه تحت هيمنة فزاعة التيار المحافظ في التأثير على الأوضاع السياسية لهذه الشريحة، ما يجعل توجهات هذه الشريحة الاجتماعية ممزّقة ومشتّتة بين هواجس متناقضة.
اليوم، عاد العنف الاجتماعي ليضرب محافظات مختلفة، في تذكير لأصحاب القرار بأنّ عليهم تحديد رهانهم الحقيقي تجاه هذه الشريحة، فالخيارات أمامهم محدودة وواضحة؛
إمّا أن ندخل في عصر الإصلاح الحقيقي ونبدأ بترسيم معالم دولة المواطنة والقانون، ونحدد الشركاء الإصلاحيين والشروط المطلوبة للنجاح في المرحلة المقبلة، ونعيد تدشين أسس العلاقة مع الجميع، وتحديداً هذه الشريحة.
وإمّا أن نقبل بأن يستمر مسلسل التدهور والانهيار السياسي والاجتماعي، حتى نصل إلى مرحلة تصبح معها كلفة الإصلاح وشروطه أكبر بكثير وأشد تعقيداً وصعوبة!
(الغد)