«دفن الرؤوس في الرمال» .. ليس سياسة ولا خياراً

تعيدنا حواراتنا مع زملاء وأصدقاء في المعارضة السورية، إلى حوارات مماثلة كنا انخرطنا فيها بقوة، مع زملاء وإخوة عراقيين، عشية الحرب الأمريكية على العراق، يومها كان العراقيون على ثقة أكيدة بأن سقوط نظام حسين لن يكون سوى “جراحة بسيطة”، يخرج بعدها العراق، إلى ضفاف الحرية والديمقراطية والرفاه، وعندما كنا نبدي أمامهم مخاوف من مغبة انزلاق العراق في الفوضى والحرب الأهلية، كانت أجوبتهم تأتي سريعاً بالنفي المدعّم بالوقائع والمعطيات التي تظهر صلابة الوطنية العراقية، وتداخل البنى الديموغرافية العراقية إلى الحد الذي لا انفصام فيه ولا فكاك، سقط نظام صدام بأسرع مما راهن المراهنون لكن العراق لم يخرج من أزمته الأهلية بعد، وليس في الأفق المرئي إرهاصات لخروج وشيك من المأزق.
منذ اندلاع الانتفاضة السورية، والإخوة في المعارضة يستخفون بخطر الفوضى والانزلاق إلى حرب أهلية، هم أيضا استخدموا عبارات رددتها أنظمة عدة، بمن فيها نظامهم: سوريا ليست العراق، سوريا لن تنزلق للحرب، المكون الديني في المعارضة متواضع، لن ننجر لحرب مذهبية وطائفية يريدها النظام، النظام سينتهي قريباً، فالشعب بأسره يقف ضده، باستثناء حفنة من المرتزقة والشبيحة، كل الطوائف والمذاهب والأقوام خلف المعارضة، عبارات تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن النص العراقي المعارض قبل عقد من الزمان.
اليوم، تبدو الصورة مختلفة كثيراً، سوريا تنزلق إلى الحرب الأهلية بشهادات دولية متراكمة، حمص أولى ساحات هذا الاحتراب، القتل على المذهب، التشويه والتمثيل بالجثث، الخطاب الإقصائي الاستئصالي، الثورة لم تعد سلمية، فميزان الخسائر البشرية يتجه للتوازن بين السلطة والمعارضة، كل يوم يمضي يُقتل فيه جنود ورجال أمن ومن يقال أنهم شبيحة، فضلا عن القتل الطائفي والمذهبي، حتى أن مجموعة الأزمات الدولية، حذرت من مغبة تحوّل جيش سوريا الحر، إلى ميليشيا غير خاضعة للسيطرة، وربما هذا ما دفع المجلس الوطني لعقد أول لقاء تنسيقي مع قادة هذا الجيش المنتشرين في تركيا وعلى مقربة من حدودها مع سوريا.
ويوماً إثر آخر، تتسع دائرة القتل، العنف والعنف المضاد، النظام يتهم جماعات مسلحة إجرامية وإرهابية بمقارفة هذا المسلسل الدموي، والمعارضة تتهم النظام بممارسة القتل العشوائي واستخدام الأسلحة الثقيلة، أياً كانت مسؤولية كل فريق من الفريقين، فإن الخلاصة تظل مع ذلك، هي ذاتها: سوريا تنزلق للفوضى والحرب الأهلية، وبدل التظاهرات السلمية المليونية التي كنّا نوعد بها، سنرى الكثير من الصور التي تذكر ببيروت 76، وبغداد 2006 والجزائر في تسعينيات القرن الفائت.
كنا نقول، بأن من قارف الحرب الأهلية هناك، سيقارفها هنا، لأنه من نفس الطينة والعجينة، كان يرد علينا بأن النظام وحده من خلق أسطورة السلفيين الجهاديين، وروّج لها ونفخ فيها، لا أحد بعد كل هذه التقرير التي تنشر عن “الزحف السلفي” على سوريا، من الخليج والعراق إلى ليبيا و”المغرب الإسلامي” بمقدوره أن يستمر في دفن رأسه في الرمال، نحن مقبلون على مواجهة الأخطر الذي ما زال بانتظارنا.
حتى الآن، لم يفقد النظام سيطرته على الوضع السوري، باستثناء حارات وأحياء في بعض الأطراف السورية وعلى هوامش بعض المدن، عندما تتراخى قبضة النظام، والأرجح أنها ستتراخى ذات يوم، سينتشر العنف المذهبي على الطريقة العراقية، وستحدث المفاجأة السورية، التي لن تقل هولاً عن المفاجأة العراقية، وسنرى العشائر التي طالبت بنصف عدد مقاعد مؤتمر اسطنبول الأول، تتطلع للعب دور عشائر الأنبار والصحوات، صدام حسين ترك العراق خراباً إلا من المسجد والحسينية والعشيرة، وشقيقه في سوريا سيترك البلاد بإرث مماثل، فلا أحزاب ولا مجتمع مدنيا ولا قطاع أعمال، يمكن أن يملأ فراغ السلطة، وسوريا من قبل ومن بعد، لن تكون بعيدة عن النماذج المصرية والتونسية والليبية، بل بالعكس، أرى أن تونس ومصر لديها من الروافع المدنية مما لا يتوفر لسوريا التي تبدو أقرب لنموذج الخواء الليبي.
لا يهم أن نسبة السبعين بالمائة في سوريا هم من المسلمين السنة، فهذا لا يعني شيئا مغايراً عن النموذج الذي صنعه السبعين بالمائة من سكان العراق الشيعة، العنف المذهبي والطائفي، سيترك نتائج وخيمة أياً كانت هوية المذهب أو الطائفة المهيمنة، لا غالب ولا مغلوب في العنف الطائفي، حتى وإن كان بين أكثرية عددية وأقلية ذات مغزى.
قد يقال أن التدخلات الخارجية هي المسؤولة عن انزلاق العراق للحرب الأهلية، وهذا صحيح إن أخذنا بعين الاعتبار أن هذه التدخلات وقعت على بيئة خصبة وجاهزة لاستقبال تداعياتها الخطيرة، من قال أن سوريا ستكون محصنة من التدخلات الخارجية الضارة، ومن قبل جوار طامع، وقوى إقليمية مصطرعة ومحاور تنتوي تصفية الحساب وأجندات تقسيمية نقرأ عنها منذ أن تمكنا من “فك الحرف”.
لا أدري كيف يمكن لسوريا أن تخرج من أزمتها بأقل الخسائر الممكنة، ولا أدري أن كانت ستتمكن من ذلك أصلاً، لكن أخطر ما نقرأه ونستمع إليه، هو إنكار هذا الخطر، لكأن درس العراق ليس طازجاً في الذاكرة بعد.
(الدستور)