الثوار والسلطة والبوصلة

المدينة نيوز - يجرى حوار محموم, بعضه بريء, وبعضه خبيث, وبعضه مفيد, وبعضه يلحق الضرر بالأمة وثورتها وشهدائها وتضحياتها, وعندما يتدخل الإعلام والإعلاميون من كل حدَبٍ وصوبٍ, من العلمانيين والليبراليين ومن الأجانب والغربيين, ومن (اليهود والإسرائيليين), ومن الإمبراطوريات الإعلامية التي تدار برؤوس أموال بالمليارات, يصبح الصوت العاقل في هذه المعركة المحترمه خافتاً وضعيفاً, وغير مسموع.
إن معركة الإعلام الدائرة, معركة خطرة بالغة الخطورة, على الأمة وعلى الأجيال, وكيفية توجيه الرأي العام, والتأثير على عقول الناشئة والشباب, في ظل انعدام إعلام عربي أصيل موجه, وفي ظل إعلام إسلامي ضعيف, لم يقو على المواجهة الشرسة مع أولئك الذين لهم باع وذراع وتاريخ طويل في ادلجة الإعلام وإخضاعه, ودعمه بالعلوم الأخرى وخاصة تلك العلوم التي تتعلق بالنفس ودراستها والعلم المتعلق بالجماهير وسيكولوجيتها, اضافة الى علوم السياسة وفنونها وألاعيبها وخدعها.
لقد استمعت الى حوار طويل وممنهج في قناة (B.B.C) حول الثورات العربية, تحت شعار أو سؤال موجه الى الشباب: هل تمت سرقة الثورة?, وهل يشعر الشباب أن الكبار, والسياسيين التقليديين سطوا على جهود الشباب, ثم استأثروا بالكعكة لوحدهم, وقد أجرت المحطة استفتاء على شبكة الانترنت حول شعور الشباب بسرقة ثورتهم, فكانت النتيجة مفزعة ومرعبة أنّ حوالي (77%) يقولون (بنعم), أي أنهم يشعرون أنهم سُرقوا, ووجدت بعض الإعلاميين اخذ يتفنّن في إطلاق الشعارات التي تعبر عن هذا المضمون ورددها آخرون كثر وفضائيات كثيرة مثل : " الثوار في الميدان, والسلفيون في البرلمان " .
هناك غيبة لعلماء الأمة ومفكريها, الذين يقع على عاتقهم ترشيد الثورات العربية, وتوجيه الحوارات بين فئات الأمة توجيهاً نافعاً مفيداً, بَنّاءً, من اجل تعظيم الفوائد, وتقليل الخسائر والسلبيات ومن اجل أن تكون هذه الثورة منطلقاً صحيحاً, لإعادة بناء الأمة, وإعادة توجيه مسارها العام على السكة الصحيحة, ومن اجل السير نحو تعاظم الانجاز وتوجيه الأمة على الجوامع والقواعد ونقاط الاتفاق, وإبعاد شبح الصراع والفتنة والنزاع والتطاحن على أشباح الغنائم .
وفي هذا الصدد, أحب أن ابدي بعض الملاحظات التي أود أن تصل الى أذان الشباب وعقولهم في ميادين الثورات, وساحات التحرير في كل البلاد العربية الثائرة.
الأمر الأهم: أن الثورة الشبابية العربية الماجدة انطلقت من اجل الحرية وإطلاق الإرادة, وصيانة الكرامة, وبناء الأمة وتوحيدها, ومقاومة الفساد والفاسدين, ووضع حد للمتسلطين وأعوانهم في القمع والكبت وتبديد مقدرات الأمة والسطو على أموال الشعب المسكين.
إن هذه الأهداف النبيلة المشروعة هي أساس نجاح الثورات, وأساس الاعتراف بها على كل المستويات المحلية والإقليمية والعالمية, ولذلك (النقطة رقم واحد) هي الحفاظ على هذه الأهداف وعدم نسيانها أو الانحراف عنها قيد أنملة.
الأمر الثاني: الثورة الشبابية العربية المظفرة قامت لتخليص الأمة من مرحلة الاستبداد بالحكم, ومن مرحلة الاستيلاء على السلطة بالقوة أو بالشرعية الأجنبية, أو بسيف القبيلة أو عن طريق التوارث. وهذا يقتضي أن نبدأ مرحلة جديدة كلياً, يستطيع الشعب أن يسترد السلطة الكاملة, ويملك القدرة على اختيار الحاكم, والقدرة على المراقبة والمحاسبة; لأن الاستبداد هو أساس بلاء الأمة, وهو أساس الفساد, وهو أساس مصادرة الحريات وهدر الكرامات وتبديد الثروات.
الأمر الثالث: الاتفاق على الآلية الموصلة لما سبق, وهي تمكين الشعب من الاختيار الحر النزيه الشفاف, ويجب الاحتكام الى صناديق الاقتراع والرضا بهذه النتيجة عندما ينتفي التزوير, والعبث بإرادة الجماهير.
وبناءً على ما سبق, فان الثورات العربية العارمة, استطاعت أن تنجز انجازات هائلة على صعيد أهدافها, فقد استطاعت الإطاحة بالطواغيت والمستبدين, واستطاعت البدء بانتخابات نزيهة لأول مرة في تاريخها.
وهنا يأتي دور الشباب: وهو التركيز على الآلية الصحيحة بفرز المسؤولين, وان نصل الى حقيقة أن (صناديق الاقتراع) مقدسة; لأنها تحوي إرادة الشعب الجامعة التي تحدد مصير البلاد والعباد.
إن الثوار الذين ثاروا في الميادين والساحات لم يدر بخلدهم لمعان السلطة أو بهرجتها, وان يكونوا بأشخاصهم زعماء ورؤساء ووزراء, فهذا يمثل انحداراً في قيم الثورة النبيلة, وعند ذلك لا نختلف عن الانقلابات العسكرية السابقة بشيء, وهي استبدال شخص بشخص, وفي هذا انحراف عن مسار الثورة الصحيحة وأهدافها الناصعة.
الهدف الناصع الجميل تمكين الناس من اختيار زعيمها, وان نصل الى تلك الدرجة التي تحترم نتيجة الصناديق وترضى بها; لان عدم الرضا بنتيجة الصناديق تعني العودة الى المرحلة السابقة, ولذلك فإنّ السؤال القائل: هل تم سرقة جهود الثورة?..
ما هو إلاّ سؤالٌ حاقدُ وخادعُ ومضللُ, ويصرف بوصلة الثوار عن هدف الثورة الحقيقي ويذكي الصراع بين الشباب والشيوخ وبين الذكور والإناث وبين فئات الشعب المختلفة ونعود إلى نقطة الصفر مرة أخرى.
(العرب اليوم)