فتوى القرضاوي .. بين مرجعيتين!

المدينة نيوز - الشيخ يوسف القرضاوي يفتي بجواز طلب التدخل الدولي في الأزمة السورية، حقناً لدماء المسلمين بالطبع (؟!)، مع أن معظم معارضي الداخل والخارج في سوريا يرفضون هذا التدخل، الذي ترفضه أيضاً (لفظياً على الأقل) جامعة الدول العربية، ولا تتحمس له سوى حفنة متناقصة من الأنظمة العربية، والأهم من كل هذا وذاك، أن الدول المرشحة للتدخل، والتي تمتلك القدرة عليه، ترفض التورط في “فوضى سوريا غير الخلاقة” أبداً.
حتى معارضة الخارج، التي بدت أكثر حماسةً من معارضة الداخل، لطلب التدخل والحماية والملاذات والحمايات والممرات، باتت أمام هول ما يجري وما ينتظر سوريا شعباً ودولة وكياناً ووحدة وطنية، تجنح لخيارات العودة لـ”سلمية” الانتفاضة ومدنيتها، ومن يراجع تصريحات رموز معارضة الخارج في الأيام القليلة الفائتة، يلحظ ميلاً متزايداً ومتسارعاً في هذا الاتجاه.
المجلس الوطني السوري يدعو للعصيان المدني، ميشيل كيلو يتحدث عن العودة بالانتفاضة إلى سيرة أيامها الأولى، ويدعو للانتقال السلمي والحوار والتفاوض، هيثم المالح يفعل شيئاً مماثلاً وبلغة أشد وضوحاً، أما برهان غليون، فقد بدا مؤخراً أشد حماساً لحفظ سلمية الثورة وأدواتها، حتى أنه طلب إلى “جيش سوريا الحر” التوقف عن استهداف الجيش السوري إلا في حالات الدفاع عن النفس، وهو عرض لحوار مع مؤسسات النظام المدنية والعسكرية، وإن كان جدد رفضه للحوار مع النظام نفسه، ولا أدري أي فرق في المعنى بين “الحوارين”.
الجامعة العربية تراجعت عن “المهل والإنذارات” المحسوبة بالساعات والدقائق، ورئيس اللجنة الوزارية الخاصة بسوريا، احتجب عن الاضواء في الأيام الأخيرة، بعد أن بدأت دول عربية بالتفلت من حالة الاختطاف التي عاشتها الجامعة واللجنة على حد سواء، والعراق مكلفٌ عربيا، وبضوء أخضر إقليمي- دولي، بالبحث عن مخارج وحلول سياسية، تضع المبادرة العربية بمجملها قيد التنفيذ، توطئة لإطلاق عملية سياسية قد تكفل الانتقال إلى الديمقراطية، وتسرّع في تفكيك نظام الاستبداد والفساد.
وثمة ما يشي بأن السعودية باتت أقرب إلى مراجعة مقاربتها السورية، وسحب “التفويض” الذي منحته لجارتها قطر للنطق باسمها وباسم دول التعاون الست، وهناك معلومات تتحدث عن زيارات سرية قام بها الأمير مقرن بن عبدالعزيز لسوريا، نقل خلالها رسائل تشير إلى تفضيل الرياض “سيناريو المبادرة الخليجية في التعامل مع الأزمة اليمنية”، على “السيناريو الليبي للإطاحة بنظام العقيد”، وليست بحوزتنا حتى الآن، أية تفاصيل عن تحولات الموقف السعودي وتطوراته، والأسباب التي قادت الدبلوماسية السعودية الى كل تلك التحولات والتبدلات.
ثم أن مواقف تركيا وفرنسا والحلف الاطلسي، والولايات المتحدة من بعيد، تكاد تلتقي عند نقطة واحدة: التدخل الدولي في الحالة السورية، حافل بالمغامرات والتحديات، وقد يقود إلى فوضى شاملة تتعدى الجغرافية السورية إلى المنطقة برمتها، وقد تفضي إلى إعادة انتاج سيناريو “البلقنة”، وفي حالتنا السورية، قد نكون أمام سيناريو “سورنة” المنطقة برمتها، ولعل هذا هو بالضبط، مضمون حديث أحمد داود أوغلو، الوزير التركي الأكثر حماساً للتحشيد ضد نظام الأسد، أمام زملاء له من دول الناتو.
لا ندري لماذا أقدم الشيخ على إصدار فتواه الإشكالية هذه، التي انتشرت في وسائل الإعلام، انتشار النار في الهشيم، ولسنا على بينة من الدوافع والمحركات الكامنة وراء هذه الفتوى/ المبادرة، والأهم من كل هذا وذاك، ما هي المرجعيات التي استند إليها قبل النطق بما صدر عنه، هل هو التساوق مع موقف التيار الإخواني السوري/ العربي عموماً الذي يستعجل التغيير في سوريا ولو على ظهر دبابة أطلسية أو تركية كما فضل الشيخ محمد رياض الشقفة (متناسياً أن الدبابة التركية ترفع علم الأطلسي كذلك)، وهو موقف أودى بالإخوان إلى “تطليق” كثرة كاثرة من حلفاء الأمس، ودفعهم إلى صب جام غضبهم على مختلف مكونات “محور المقاومة والممانعة” الذي طالما أمطرونا بوابل من قصائد المديح والثناء على مزاياه وفرادته؟!.
هل هو التساوق مع أولويات السياسة الخارجية القطرية وحساباتها، لا سيما أن هذه السياسة برعت في الاعتماد على وسائل وأدوات غير مألوفة، من نوع الاعتماد على شبكة من “المفكرين والشيوخ العرب” الذين “يتطوعون” لتعبيد الطريق أمامها وتسويغها وتسويقها، كل بمفرداته الخاصة، المشتقة من مرجعياته القديمة والجديدة، كنا نظن أن انتصار الثورة المصرية ستعيد الشيخ إلى قواعده سالماً في وطنه الأول ومرجعيته الأولى، لكن التطورات الأخيرة تظهر أن الرجل استمرأ على ما يبدو، منفاه الاختياري في وطنه الثاني، وظل “أسير المحبسين”: الوجهة الإخوانية والسياسة القطرية.
نفهم تماماً أن يكون الشيخ متحمساً لرحيل الديكتاتور (لم يكن الأسد كذلك من وجهة نظر الشيخ والإخوان سابقاً)، فما من وطني أو ديمقراطي أو صاحب حس وذوق سليمين، لا يتمنى رحيل نظام الفساد والاستبداد القابع على صدور السوريين لأزيد من أربعين عاماً، ولكننا لم نكن نتوقع أن يصل الأمر بشيوخ المقاومة والممانعة، حد الترويج لسياسة “التحالف مع الشيطان” لإسقاط الدكتاتور، ونربأ بـ”شيوخنا الأجلاء” أن يصلوا إلى هذه النتيجة، ونتمنى عليهم أن يثقوا بطاقات الشعب السوري الكفيلة وحدها، كما تقول المعارضة السورية ذاتها، بإسقاط النظام وترحيله، اللهم إلا إذا كان بعضهم ما زال يخفي حنينا مضمراً لأزمنة التحالف مع “الشيطان الأكبر”، بل وكل شياطين الأرض، زمن الحرب الباردة و”الجهاد العالمي” في أفغانستان، هل هؤلاء على “دورة التاريخ” الذي يعيد نفسه، تارة على شكل مأساة وأخرى على شكل مهزلة، في المسألة السورية لا وجود إلا للمأساة المركبة، لا مجال للهزل أبداً.
اللهم احمِ سوريا وشعبها ووحدتها الوطنية، لا من قبضة النظام الدامية فحسب، بل ومن بعض “أصدقائها” كذلك .(الدستور)