نيتانياهو الثاني... عودة السيد\' لا\'!
بالضبط: هذا هو ما كان ينقصنا! أن يخرج إلينا من الظلام عفريت بنيامين نيتانياهو ليعود مرة أخري رئيسا للحكومة في اسرائيل بعد أن كنا نظن أنه انصرف للأبد.. وكأن الاسرائيليين كانوا بحاجة إلي المزيد من التطرف والعناد والعنصرية ، وإلي من يذكرهم بضرورات الوحشية وابتلاع الأراضي ومبررات الاستسلام لضغوط اليمين وتخاريف الأحزاب الدينية.. إلي الحد الذي يبدو معه أن الأجواء الملتهبة التي خلفتها الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة_ والحرب علي غزة قبلها- لايمكن أن تفرز إلا سياسيين من هذه النوعية وحواة ومحترفي قتل وخبراء في التسويف ولحس الوعود ونقض الاتفاقات وإعادة التفاوض حول شروط التفاوض.. وإلي مالانهاية!
10 أعوام كاملة أمضاها نيتانياهو بعيدا عن مقعده المفضل ، تنقل فيها بين المعارضة والعزلة الاختيارية ووزارة المالية, دون أن يتغير فيه شيء( ولا في اسرائيل): نفس العبوة والمحتويات, نفس الصلف والاعجاب بالذات والكره للعرب والاحتقار للسلام, ونفس القدرة غير العادية علي الكذب.. بينما ظلت اسرائيل هي الأخري بنفس الجنون والعقد النفسية وعقلية الحصار والثأر والرغبة في السيطرة والتحرر من أي التزام أو أخلاق ودون أن يردعها شيء في منطقة كان قدرها دائما أن تكون نهبا للتناقضات والانقسامات والمطامع وأن تظل منكوبة ببعض أبنائها.
نهاية الأسبوع الماضي اختار الرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز منافسه القديم نيتانياهو ليكلفه بتشكيل الحكومة الجديدة ، وقال الكثيرون في نفس اللحظة إن الشرق الأوسط علي موعد مع كارثة أصوات أخري ارتفعت بعدها لتبدد أي تفاؤل بأن يكون الرجل قد تعلم من تجربته السابقة أو أنه أصبح فجأة مهتما بالسلام أومؤمنا بفضيلة المرونة وبالفعل فإن كل تصريحاته في الحملة الانتخابية هي نسخة بالحرف مما طبقه في الجولة الأولي له في رئاسة الوزارة: لاتفاوض علي مستقبل القدس ولا تجميد للاستيطان ولا انسحاب من الأراضي المحتلة أو الجولان.. وطبعا لا لبقاء حماس أو لحل الدولتين. نفس اللاءات التي حاول أن يفرضها علي الجميع وأدخلته في صدامات متكررة مع الفلسطينيين ومصر وأمريكا في سنواته الثلاث في السلطة(1996-1999) التي يعود اليها الآن بحقائبه وأفكاره القديمة وكأنما يريد أن يثبت للجميع أن اختياره هذه المرة معناه أن منهجه في التملص من فاتورة السلام والاختباء وراء اسطوانه الأمن هو الضمان الوحيد لاسرائيل( ولبقائه هو نفسه في الحكم).
الاضافة الوحيدة ربما للنسخة الجديدة من الرجل هي إلي جانب التحذير المتكرر من خطورة إيران النووية ـ برنامج أعطاه اسم السلام الاقتصادي ويعد فيه بتحسين أحوال الفلسطينيين في ظل اقتصاد حر بشرط أن يحسنوا التصرف. والترجمة هي أنه يريد أن يلقي إليهم ببعض الفتات في معازل تتقلص مساحتها يوما بعد يوم وفق خطة يتوقف تنفيذها علي رضا اسرائيل ، وبنص كلماته: سيمنح الفلسطينيون نموذجا يمكنهم من حكم أنفسهم بدون سيادة من أي نوع المهم ألا يكون بإمكانهم تهديد وجود اسرائيل ، وهذا الوعد الغامض هو في تصوره الطريق الوحيد إلي المفاوضات السياسية علي طريقة\' إطعم الفم\' لكن المعروض كما فهم الذين يعرفون ألاعيب نيتانياهو جيدا- هو صفقة لإعادة بناء الاقتصاد الفلسطيني مقابل أن يفقد الفلسطينيون الذاكرة وينسوا القضية والأرض والعلم وحلم الدولة ويكتفوا بأن تكون لديهم فرقة موسيقي رسمية تعزف النشيد الوطني في الخفاء وفريق كرة يتدرب فقط في أزقة الضفة وممنوع من التهديف وطائرة رئاسة لا يسمح لها بالإقلاع إلا بإذن والأهم الأهم أن يقصوا أظافرهم ويتوقفوا عن الإنجاب ويختفوا لو أمكن!
لا شيء إذن تغير في بيبي ـ كما يناديه أنصاره والأسوأ أنه بعد أن رفض حزبا كاديما والعمل أن ينضما إلي حكومة ائتلافية موسعة برئاسته ـ ليس أمامه لإكمال التشكيل الوزاري إلا رشوة أحزاب أقصي اليمين الأكثر تطرفا ـ من عينة شاس واسرائيل بيتنا ، وربما يضطر بعدها لمجاراتهم والرضوخ لمطالبهم بما يحرمه من أي مرونة تجاه عملية السلام المجمدة ولو أدي الأمر إلي الاصطدام بالإدارة الجديدة في أمريكا التي تبدي اهتماما متزايدا ولافتا بتحريك الأمور وبحل الدولتين ودفع التسوية السلمية. والأرجح أنه سيظل مذعورا من الهزيمة التي مني بها في انتخابات1999، عندما اضطر في مواجهة ضغوط الرئيس كلينتون لتقديم تنازلات أغضبت شركاءه اليمينيين في الحكومة فانقلبوا عليه وتركوه يخسر أمام إيهود باراك زعيم حزب العمل الذي شرب الكأس نفسها قبل أسبوعين وانسحب إلي المعارضة برغم كل عروض الوحشية التي قدمها علي مسرح غزة والتي تصور أنها ستبقيه في السلطة علي جثث آلاف الفلسطينيين... نفس الحرب التي أطلقت في الاسرائيليين كل غرائز القتل التي لم يعد يكفيها أي قرابين.
نعرف طبعا بخبرة رئاسته الأولي للحكومة أن أحدا لا يطيق نيتانياهو أو يتحمل غروره: حماس تري أنه الأكثر تطرفا وخطورة بين كل قادة اسرائيل, وواشنطن تعلم أنه ليس سهلا أبدا في التعامل, إلي الحد الذي جعل كلينتون ذات مرة يعلق بأن نيتانياهو يظن أنه قائد القوة الأعظم في العالم! وبديهي أن تسيبي ليفني وباراك رفضا الانضمام إلي حكومته لأنهما لا يتحملان أن يكونا تحت رئاسته. وحتي هنا في مصرلم تكن تجربتنا معه سارة بأي حال. وهذا, وغيره يفسر الشعور العام بالصدمة في كثير من العواصم العربية التي كانت تفضل أن يأتي غيره( وكأن الباقين ألطف مثلا) ، ونحن ندرك بالتجربة أنه ليس هناك زعيم غير سييء في اسرائيل وليس فيها صقور وحمائم وإنما صقور وصقور. متشددون وأكثر تشددا. سيئون وأكثر سوءا. جربنا بعد نيتانياهو الأول كلا من باراك وشارون وأولمرت وتعاملنا قبله مع بيريزورابين وشامير وبيجين, كما أن لدينا ما يكفي من معلومات عن مائير وأشكول وبن جوريون وشاريت: كلهم واحد هذا النعل من ذاك الوطأ. ولا فارق بين هذا أو ذاك إلا في درجة التعصب أو لون الشعر والقدرة علي المراوغة.
وهو ما يجعلك تندهش لأن بيننا من يبتئس لعودة نيتانياهو في حين أن ما يجب أن يقلقنا فعلا هو أننا في كل انتخابات-في اسرائيل وأمريكا أيضا ـ نحيي عادتنا العربية القديمة بانتظار المكتوب بلا أي قدرة علي التغيير. والمؤسف أننا ـ مثل نيتانياهو- لم نتغير فلا صرنا أقوي ولا حتي تعلمنا من دروس التعامل معه وطبعا لم نكن مستعدين لعودته!
10 سنوات طويلة مرت ـ وسيضيع غيرها ـ دون أن نستفيد بالوقت ونصلح من عيوبنا ودون أن نتقدم مترا أو نحرر شبرا ، وإذا كان هناك بعد ذلك شيء وحيد أسوأ من نيتانياهو ومن التشكيل القادم في الحكومة في اسرائيل- والتي ستضم في الأغلب مزيجا متفجرا وغير مسبوق من الأصولية المتشددة ودعاة الرفض وأنصار العرقية والعداء لكل ما هو عربي- فهو بالتحديد وضعنا نحن وتقصيرنا ومعاركنا الصغيرة وهدايانا المجانية التي نبعث بها الي اسرائيل بلا توقف فتقوي ونضعف.
الفصل الثاني من نيتانياهو سيبدأ بعد قليل... أدخلوا المخابيء!
الاهرام المصرية