«كيمياء المصالحة» بين عباس ومشعل

- لم ينته “ماراثون القاهرة” إلى تسجيل اختراق ملموس على دروب المصالحة الفلسطينية، وما كنّا ننتظر أن يحدث مثل هذا الاختراق أصلاً، بيد أن الاجتماعات الثنائية والجماعية، التي جرت في مناخات شديدة الإيجابية، أبقت جذوة الحوار مشتعلة، وأحيت الأمل بفرص استعادة المصالحة وبناء الوحدة الوطنية الفلسطينية.
لقد كان واضحاً لجميع الأطراف المنخرطة في حوارات القاهرة، وللدولة الراعية والمضيفة، أن هذه الجولة لن تضع آخر نقاط المصالحة على آخر حروفها... كان مطلوباً منها إحداث تقدم على هذا الطريق، وقد حدث...فلأول مرة يلتئم شمل “القيادة الفلسطينية” بمشاركة جميع القوى والفصائل، بشكل خاص حماس والجهاد، ونفر من الشخصيات المستقلة...لأول مرة منذ التوقيع على اتفاق القاهرة قبل ست سنوات، يلتئم الإطار القيادي المعني بمتابعة شؤون منظمة التحرير بمشاركة الجميع...لأول مرة تتشكل أطر “المصالحة الاجتماعية” في قطاع غزة، لتطويق ذيول أحداث الانقسام المؤسفة، وما ترتب عليها من كوارث إنسانية وويلات، يتعين إخضاعها لمنطق العدالة والإنصاف.
لم تتشكل حكومة الوحدة، وما كان منتظراً لها أن تتشكل في ختام هذه الجولة...حكومة الوحدة مُرحلة إلى ما بعد استحقاق 26 يناير المقبل، عندما تنتهي المهلة التي منحتها الرباعية الدولية لكل من السلطة وإسرائيل، لتقديم تصورات نهائية، بصدد قضيتي الأمن والحدود في إطار الحل النهائي، حيث سيتقرر في ضوء ذلك، ما إذا كان استئناف المفاوضات أمراً ممكناً أم لا...قبل ذلك، من المقرر أن يواصل سلام فيّاض تصريف أعمال حكومة تصريف الأعمال، الأطول عمراً في تاريخ الحكومات من طرازها... بعدها يمكن أن تتشكل حكومة تكنوقراط لا سياسية، تولج مهام تقديم الخدمات للفلسطينيين، على أن تترك السياسة للمنظمة وأطرها الانتقالية الآن، والدائمة بعد انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني وتشكيل الأطر الفلسطينية الجديدة.
توحيد الأجهزة الأمنية، وكذا الحال بالنسبة للجنة الحريات المنوط بها اتخاذ إجراءات بناء ثقة، وحل مشاكل المعتقلين والجمعيات ومعالجة قضايا حرية الرأي والتعبير على ضفتي الانقسام الفلسطيني، ستباشر عملها تحت الرعاية المصرية، وهي عملية مشكوك في أن تصل إلى خواتيمها في المدى المنظور...هنا ستبحث أكثر القضايا تعقيداً...هنا ستصطدم المعالجات مع منظومة المصالح المتشكلة هنا وهناك، والتي يتعاكس كثيرٌ منها، مع اتجاهات هبوب ريح المصالحة واشرعتها.
على أن الأهم من كل هذا وذاك، تلك الروح التي سرت، أو الكيمياء التي “تفاعلت” ما بين شخصيتين محوريتين في العمل الوطني الفلسطيني، أو بالأحرى الشخصيتين المحوريتين في هذا الإطار: محمود عباس وخالد مشعل... لقد استمعت مباشرة إلى انطباعات الرئيس عباس عن مشعل، الإيجابية للغاية، وقرأت كلاماً مماثلا لخالد مشعل عن الرئيس عباس، حتى أنني بت على يقين، بأن استمرار هذة القناة الثنائية المفتوحة، بين قطبي الساحة الفلسطينية، هو الضمانة للتقدم على دروب الوحدة والمصالحة، سيما وأن قوى الانقسام وحسابات الأمر الواقع، تدفع باتجاه معاكس، وتعمل ما في وسعها لتعطيل العملية برمتها، في الضفة المحتلة كما في القطاع المحاصر.
لقد نُقل عن خالد مشعل حديثه عن عوائق خارجية وداخلية تواجه المصالحة... وداخلية هنا، يقصد بها داخل الفصائل، بمن فيها حماس، في قطاع غزة بالذات....ووصلتنا معلومات وتقارير تفيد بأن نفراً من الشخصيات النافذة، سياسياً وعسكرياً، في حماس والكتائب، تقاوم المسير على دروب الإصلاح، وأضيف إليها تقارير ومعلومات تتحدث عن شبكة مصالح، بنيت على هوامش الأنفاق وتجارة التهريب واحتكار بعض السلع، كل ذلك يقف اليوم حجر عثرة في طريق المصالحة، وقد يجد هؤلاء طريقهم إلى تعطيل المصالحة، تماماً مثلما لوحت بعض الفصائل والجماعات التي تشملها الدعوات إلى القاهرة، بأنها ستلجأ إلى آخر اسلحتها لتعطيل العملية: إطلاق الصواريخ، ومن على قاعدة “المعادلة الصبيانية” التي طالما اعتمدنا في صغرنا وصبانا: “لعّيب أو خرّيب”.
السادس والعشرين من يناير ليس ببيعد، وطالما أن العملية تتقدم إلى الأمام، فلا ضير في انتظار بضعة أسابيع إضافية، لقد حُلت مشكلة لجنة الانتخابات، وصدر المرسوم الرئاسي بأسرع مما تخيّل كثيرون، والمطلوب إستكمال الإجراءات التنفيذية الكفيلة بإجراء الانتخابات الشاملة، بلدية وتشريعية ورئاسية ومجلس وطني...لا يجوز أن يظل الانقسام قائماً...لا يجوز أن تظل شرعية المؤسسات مطعون بها....لا يجوز أن يستمر تطاحن الشرعيات واصطراعها...ما حصل خطوة للإمام، يجب أن تتبعها خطوات إضافية.
وفي ظني أن العائق السياسي الذي عطّل الوحدة من قبل لم يعد بتلك الصلابة والتعنت.... لا مفاوضات في الأفق، الآن أو في المدى المنظور....لا شريك إسرائيلياً في عملية السلام، ما يعني أن لا عملية سلام من أصله....حماس تعتدل حسب الواشنطن بوست، وحسبنا....تتحدث عن دولة على حدود 67 وعن المقاومة الشعبية السلمية، وعن الوحدة والشراكة الوطنيتين، هذه وحدها، تكفي أسساً وقواعد أولية لبناء استراتيجية فلسطينية بديلة....حماس قبلت بالمنظمة وانخرطت في صفوفها، صحيح أن العملية لم تكتمل، بيد أن الصحيح أنها سائرة في هذا الاتجاه....والأهم من كل هذا وذاك، أن حماس لن تكون الاستثناء لحركة تيار الإسلام السياسي (السني)، الإخواني والسلفي، الذي يظهر من الاعتدال في مناخات “ربيع العرب”، ما لم نعهده من قبل....ويتسابق على بث رسائل الطمأنينة والاطمئنان، المبالغ بها، إلى الحد الذي بتنا نقلق معه، على مستقبل مشروعنا الوطني، الذي لا يبدو أنه عند كثير من القوى الإسلامية، خط أحمر، تماماً مثلما تكشف لنا أن “المقاومة والممانعة” عند بعضهم لم تكن خطاً أحمر كذلك، بدلالة انقضاضهم الشرس على حلفاء الأمس من هذا المعسكر، ما أن لاحت في الأفق بوادر وصول إخوان سوريا، إخوانهم، للسلطة؟!.(الدستور )